فجأة وعلى حين غرة يشهد سوق التجمعات والتكتلات الدولية ‘ازدهاراً’ من جديد بعد ‘ركود’ وانكفاء استمر طويلاً، حيث اقتصرت ‘حركة هذا السوق’ على ‘التداولات’ الاعتيادية للتجمعات القائمة. فلقد ارتفعت فجأة أسهم مجموعة العشرين التي تضم كبريات الدول الرأسمالية وكبريات الدول النامية، وعقدت في غضون بضعة أشهر فقط قمتان أُولاهما في نوفمبر العام الماضي في لندن، حيث خُصِّصتا لمناقشة الأزمة المالية/الاقتصادية العالمية وسبل التغلب عليها. وكان واضحاً خلالها الدور المميز والمتنامي الذي لعبته الصين والهند والبرازيل قبل وخلال انعقاد القمتين وما بعدهما، والذي عكس تزايد ثقلهما المحسوس في الحياة الدولية. وكانت القارة الأفريقية قد بذلت في الآونة الأخيرة محاولات جادة للملمة صفوفها للعودة ثانية للتواجد الفاعل في النظام الدولي من خلال تفعيل مؤسساتها خصوصاً منظمة الوحدة الأفريقية التي كان أنشأها قادة الاستقلال الوطنيون في القارة السمراء في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. حيث أنشأوا ما أسموه بالاتحاد الأفريقي (تيمناً باسم الاتحاد الأوروبي). وخلال الشهر الماضي عقدت في مدينة لاكويلا الإيطالية قمة الثمان الكبار (الولايات المتحدة، روسيا، ألمانيا، فرنسا، بريطانيا، إيطاليا، اليابان وكندا)، إلا أنها هذه المرة لم تقتصر على الدول الأعضاء في المجموعة، وإنما دُعيت إليها الدول المتقدمة في ‘العالم الثالث’. فلم يشأ قادة مجموعة الثمان الكبار هذه المرة الانكفاء بغرور على أنفسهم وإنما عمدوا إلى دعوة قادة البلدان الرئيسية في ‘العالم الثالث’ بعد تيقنهم بأنهم لم يعودوا يحتكرون مصادر القوة والنفوذ في الحياة الدولية إثر حدوث تبدلات نوعية في موازين القوى الاقتصادية العالمية. فكان أن ظهر إلى السطح، على هامش التداولات الإعلامية لأعمال القمة، مسمى لمجموعة مراكز قوى عالمية جديدة وهو مجموعة الـ 14 التي تم تداول أسماء كل من الدول الثمان الكبرى إضافة إلى الصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا والمكسيك ومصر. وكان سوق مجموعة الـ 77 (التي تضم الدول النامية) + الصين قد انتعش مجدداً بصورة قوية ولافتة منذ انطلاق جولات المفاوضات المتعلقة بقضية التغير المناخي بعد التوقيع على بروتوكول كيوتو في عام 1997 كبرنامج تطبيقي لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ. وقبل أيام (خلال الفترة من 15-16 يوليو الجاري) عقدت حركة عدم الانحياز قمتها الخامسة عشرة في مدينة شرم الشيخ المصرية بمشاركة قادة الدول الأعضاء في الحركة البالغ عددها 118 دولة، أو ممثليهم، إلى جانب عشرات الدول والمنظمات الإقليمية والدولية التي تتمتع بصفة ‘مراقب’ في الحركة. وقد ألقت مناخات الانتعاش التي تسود هذه الأيام المشهد السياسي الدولي، بظلالها على الحركة التي راحت تستعيد نبرتها المرتفعة إثباتاً لوجودها بين الكتل والتجمعات العالمية القائمة والمستجدة، إذ استشعرت إرهاصات المخاض الذي يعيشه العالم منذ أن تفجرت الأزمة المالية/الاقتصادية العالمية في سبتمبر من العام الماضي، والمُؤْذِن حتى الآن على الأقل وفقاً لما هو ظاهر من بيِّنات ومعطيات، بنشوء نظام عالمي جديد يستوعب المستجدات النوعية الحادثة في موازين القوى الاقتصادية العالمية. إنما السؤال: هل تستطيع حركة عدم الانحياز التي تنوء بثقل حركتها والناتجة عن ترهلها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، أن تتأهل فعلاً للنهوض بهذا الدور؟ لا يبدو الأمر على هذا النحو وذلك برسم الخطابات الوعظية الأقرب إلى الكنسية والأخلاقية منها إلى السياسة التي تناوب على إلقائها القادة إياهم الذين كانوا ألقوا مثل هذه الخطابات قبل نحو من ثلاثة عقود والتي تزخر بمناشداتها المثالية الطوباوية وتشح بملامساتها الواقعية وبرامج عملها التطبيقية. المشكلة في حركة عدم الانحياز، من وجهة نظرنا، تتمثل في ذلكم العدد الضخم من الدول التي هي في غالبيتها ليست غير منحازة. والحال أن مفهوم عدم الانحياز أصبح بلا معنى منذ أن انتهت حالة الثنائية القطبية مطلع تسعينيات القرن الماضي بانهيار الكتلة السوفييتية الذي وضع حداً لانقسام العالم إلى معسكرين أمريكي وسوفييتي، اصطفت غالبية الدول خلف المعسكر الأول وقسم منها خلف المعسكر السوفييتي، فيما اختار بعضها الآخر في ‘العالم الثالث’ طريق عدم الانحياز لأي من المعسكرين. وحتى في ذلك الوقت، إبان اصطخاب المنافسة بين المعسركين في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، لم تكن غالبية الدول الأعضاء في حركة عدم الانحياز، ملتزمة فعلاً بمبادئ عدم الانحياز، وإنما كانت منحازة بصورة واضحة إلى المعسكر الشرقي، فكان أن أضفت على توصيف حالتها هذه، تسمية ‘الحياد الإيجابي’ كنوع من الإقرار الضمني بلا حياديتها. بمعنى أن هذه الحركة هي منظمة سياسية بامتياز، أي ليس لها ‘أسنان’ اقتصادية تؤهلها لأن تكون أحد الأقطاب الفاعلين بين الكتل والتجمعات العالمية الفاعلة والرائدة. بصراحة لقد ظهرت ‘مجموعة الـ 77 + الصين’ (التي تتشكل أساساً، بالمناسبة، من دول نامية معظمها أعضاء في حركة عدم الانحياز)، أكثر فاعلية وإثباتاً للوجود، المجدي والمسوَّغ أيضاً، من حركة عدم الانحياز. وقد اتضح ذلك جلياً من نجاحها على مدى سني مفاوضات التغير المناخي (Climate Change)، في التحكم في سير المفاوضات في مواجهة الدول الرأسمالية المتقدمة. فلقد أظهرت تنسيقاً عالي المستوى سواء في المفاوضات التحضيرية أو في اللقاء السنوي لفرقاء اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ وبروتوكولها. وعلى ذلك ربما كانت كلمة رئيس الوزراء الهندي في المؤتمر، والهند بالمناسبة هي من الأعمدة التي أشادت حركة عدم الانحياز، أكثر الكلمات التي ألقيت في المؤتمر، مصداقية وانسجامية مع التحدي الأبرز الذي يواجه الدول الأعضاء في الحركة، إلى جانب التحدي التنموي، وهو التحدي الأمني المتمثل في الخطر الإرهابي السافر والكامن الذي يمثله تنظيم القاعدة والتنظيمات الشقيقة والمتفرعة عنه. ومع ذلك، وكما هو متوقع على أية حال، فلقد ضاعت هذه القراءة الهندية الحصيفة والبعيدة النظر، وسط الصفير والتسطيح السياسي والإعلامي، الذي ما فتئ يهتم بالكلاشيهات على حساب دقائق الأمور وجوهرها. فلا غرو أن لا تحظى قمة عدم الانحياز بالاهتمام الذي تستحقه في أجهزة الميديا العالمية المؤثرة، في ظل وجودها الصوري غير المؤثر في الحياة الدولية، كما هو حال الكتل والتجمعات الاقتصادية العالمية المعروفة.
صحيفة الوطن
28 اغسطس 2009