لعل من دواعي اعتزازنا أن نستميح الكاتب (توفيق الشيخ) عذراً باتخاذ عبارته، كعنوان لمقالتنا هذه، التي أصاب في تلك العبارة كبد الحقيقة قائلا: “مات ناجي العلي.. لكن حنظلة لايزال حيا”.. ومن هنا نستطيع القول فخراً: هو حينما يرحل المناضلون والعظماء، فإن انجازاتهم وإبداعاتهم وعطاءاتهم قد تتجدد في أرضية الواقع المجتمعي الملموس.. بحسب ما تظل تضحياتهم وأفكارهم ومبادئهم ماثلة في ضمير الشعب وذاكرة الوطن.
وهكذا رحل المناضل الفلسطيني والعربي والأممي (ناجي العلي) شامخاً بوقوفه على قدميه، بعد أن ترك لأمته العربية المغبونة، إرثا وطنيا عظيما لا يسقط بتقادم الأعوام والقرون وتعاقب الأجيال.. بقدر ما يظل يوم استشهاده في التاسع والعشرين من شهر أغسطس 1987م محفوراً في صخرة الزمن ومضيئاً في سجل الخالدين.. حسبما دُونت بالمقابل أسماء قتلته المجرمين من صهاينة عملاء الموساد، وتواطؤ بعض المتآمرين من أمته في مستنقعات التاريخ.
اثنان وعشرون عاماً مضت على غياب المناضل (أبي خالد) فسيولوجيا.. ولكن يظل حضوره مبدئيا ساطعا بتلألؤ النجوم، وقد بلغ عنان السماء، وبأفكاره الحرة التي لا تموت، لأنها نهضت بانتفاضة أطفال الحجارة، وبقلمه الذي هو أمضى من السيف، لكونه قد انتصر على جلاوزته وجلاديه، وريشته “الجريئة” التي امتشقها بأغلى مداد، قد دحرت الظلم والقهر السياسيين، مثلما أماطت اللثام عن المؤامرات، أبطالها بريطانيا وبعض الحكومات العربية، ومافيا الصهاينة من يهود الشتات الذين احتلوا أرض فلسطين، مسترشدين بخريطة وعد المجرم (آرثر بلفور) عام 1917م، ومؤيدين لسياسة الانتداب البريطاني على فلسطين عام 1924م، ومحتفلين بعام النكبة في 15 مايو عام 1948م.
بحسب ما يظل حضور الراحل المناضل (أبي خالد) متألقاً في سماء الحرية، والمتمثل في شعاره العظيم للطفل (حنظلة) المقيد اليدين والرجلين، وقد أدار ظهره للأنظمة العربية، استياء من تآمر العديد من الحكومات العربية في حرب فلسطين عام 1948م.. وبالتالي تبنيها مسلسل الانسحاق في التسابق المذل لعملية التطبيع مع العدو الصهيوني.
الطفل (حنظلة) أدار ظهره للحكومات العربية احتجاجاً على عدم شرعيتها، واستئسادها في الوقت ذاته على شعوبها ومفكريها وعلمائها، بمزيد من الدونية والتهميش، ومصادرة الحقوق والحريات العامة.. وتحويل المجتمع العام إلى سجن كبير، مرتكزاته ازدياد السجون والمعتقلات، ودعائمه إقامة المحاكم العسكرية وتشكيل المحاكم الأمنية.. ولعل الشيء بالشيء يذكر، هو حينما أعلن (حنظلة) بالأمس امتعاضه من دكتاتورية وتآمر الحكومات العربية.. فإن (حنظلة) اليوم قد يبكي دماً لما وصلت إليه فصائل التنظيمات الفلسطينية من الدرك المنحدر من الهزائم والنكسات، ومعاناتها مظاهر التمزق والتشرذم والانقسامات التي أصابتها في مقتل ومكمن.
إن الطفل (حنظلة) يبكي اليوم دماً في ظل احتدام الخلافات في أوساط منظمة التحرير الفلسطينية.. ويستنكر (حنظلة) عقد المؤتمر العام السادس لمنظمة التحرير الفلسطينية بعد فترة طال انتظارها امتدت إلى عشرين عاماً، وفي ضوء ذلك برزت خلال المؤتمر خلافات المعسكرات الثلاثة، وما تمخض عنها من صراع واضح المعالم ما بين الحرس القديم والوجوه الشابة، ما بين “الجيل القديم” و”الجيل الجديد”.. وخوضهما ماهية الخلافات والفساد والفوضى والمحسوبية.. وبهذا الإطار أقر الرئيس الفلسطيني (محمود عباس) في خطابه أمام المؤتمر قائلا: “إن الحركة ارتكبت أخطاء أدت إلى هزيمتها أمام حماس في غزة”.
ولعل ما يرسخ استياء (حنظلة) هو حينما منعت حركة حماس في غزة كوادر حركة فتح البالغ عددهم (480) عضواً من السفر إلى مدينة بيت لحم لمشاركتهم في أعمال المؤتمر، ناهيك عن سعي حركة حماس إلى أسلمة القوانين في قطاع غزة، وفرض وصاياها الإسلامية على المرأة الفلسطينية (المحامية والمعلمة) بارتداء الحجاب والنقاب.
تمر الذكرى الثانية والعشرون لرحيل شهيد الفكر والمبدأ والوطن المناضل ناجي العلي، فتسترشد الشعوب بأجمل ما سطرت ريشته الخالدة من رسوم ارتقت بالمفاهيم القيمية والإنسانية، ونهضت بالمبادئ الوطنية والأممية.. مثلما يستنهض شعب فلسطين المناضل إرادته من معين إبداعات وعطاءات (أبي خالد).
شعب فلسطين العظيم يعاهد الشهيد ناجي العلي، بأنه على الدرب سائر، وبالنهج ملتزم، وبالفكر مؤمن.. بقدر ما يظل يوم استشهاده مضيئاً، بتجلي تلك الكوكبة الشريفة من المناضلين الذين حملوا قضية شعبهم ووطنهم في قلوبهم وعقولهم ووجدانهم.. فناضلوا من أجل القضية، واستشهدوا في سبيل الوطن، وفي مقدمة أولئك الشهداء غسان كنفاني وكمال ناصر وكمال عدوان ويوسف النجار وخليل الوزير ودلال المغربي. فسلام عليك يا رسول الحرية المناضل (ناجي العلي).. وهنيئا لك يوم استشهادك في اليوم التاسع والعشرين من شهر أغسطس الذي سيظل ماثلاً في ضمير الأمة ووجدان الشعب، خالداً في صفحات التاريخ على مر الأزمان والعصور.
صحيفة اخبار الخليج
28 اغسطس 2009