المنشور

الانتقائية والذاتية في الإصلاح

 يقوم الإصلاح في البلدان الشرقية على أسس موضوعية، ونقول البلدان الشرقية عامة لأنها منظومة واحدة تاريخية، تأسست قبل آلاف السنين بقوانين اجتماعية متقاربة.
والأكثر تخلفاً وتعقيداً فيها البلدان الإسلامية والافريقية، لكن الدول الأخرى تشترك معها في ذات السمات السياسية الرئيسية.
والإشكالية الرئيسية هي سيطرات الدول، وهي قضية لم تـُحل على مدى عشرات القرون، ومن هنا فليس ثمة أسس موضوعية لأي تغيير، وأي تغيير يرتبط بالحكم بل بشخصية الحاكم، ومن هنا فالدول الشرقية هي دول ذاتية، تتبدل على مدى مقاربة الحكام لتلك الأسس الموضوعية، لكنهم لا يستطيعون التطابق معها، لأن الدول الشرقية تقوم على غير تلك الأسس، فتغدو التحولات مناورات وصراعات وقد تصير انتكاسات وتراجعات.
وليس نمو وظهور الحداثة في الغرب شيئا اعتباطيا لكن لأن أوروبا انكسر في تاريخها في كثير من الأحيان شمولية الدول المقامة على سيطرات الدول للمال العام والموارد الاقتصادية.
وليست الأفكار السائدة سوى صدى لتلك السيطرات المديدة، فالأفكار أيضاً هي استبدادٌ في مجال الوعي والشعارات والتنظيمات الاجتماعية المختلفة.
ولهذا يجب عدم التوقع بحدوث نهضات متسقة وديمقراطية مطردة في البلدان الشرقية بشكل عام.
ولابد أن تكون الممارسات السياسية والفكرية على قدرِ الأشكال المقاربة للديمقراطية بصفتها “الموضوعية”.
في الدول التي سلمتْ السلطات بشكل كلي للبرلمان هي دولٌ قليلة نادرة، كالهند واليابان وجنوب افريقيا، وبالتالي أخضعتْ التحولَ الديمقراطي لصراع الأغلبية والأقلية، المحول المغير للمجتمع في سلم التقدم.
إنه مستوى سياسي أتاح الصعود للوعي الديمقراطي في القوى الاجتماعية، وشكلهُ نموُ الملكيةِ الفردية لوسائل الإنتاج الكبرى عبر سنوات طويلة، فتحجمت آلة الدولة، وغدت جهازاً محايداً، لا يستطيع أن يسربَ الدكتاتورية للعمليات الانتخابية.
أي أن الانتقال للديمقراطية يتطلب الانتقال للرأسمالية المتطورة.
وبهذا فإن العمليات السياسية والاقتصادية هي مقاربات ومباعدات من وعن نموذج الديمقراطية هذا، الذي لم يوجد نموذج آخر غيره.
هل تستطيع الدول الشرقية أن تنتقل للرأسمالية المتطورة وتصنع بشكل جذري وتعيد تشكيل القوى السكانية تبعاً لمقاييس العمل الضروري والمتقدم؟
هذا يتطلب من الوعي السياسي أن يتبصر هذه الضرورات، فكيف يمكن جعل الدول العربية تشترك في عمليات تصنيع كبرى، وكيف يتم جعل فائضي السكان الريفي والبدوي ألا يصيرا شكلين للفوضى وهدر الإنتاج بل أن يدخلا في خطط التصنيع؟
وكيف تتوجه المؤسسات السياسية في الجزيرة العربية والخليج إلى وضع الفوائض في التصنيع الحديث والتقني المتطور وكيف تـُدخل فائض السكان النسائي والريفي والعربي عموماً في عمليات اقتصادية متقدمة؟
إن العمليات السياسية الديمقراطية بعيدة والخطوات الأقرب هي كيف يتم تفعيل قوى الثروة والعمل في الإنتاج المتقدم.
هل تستطيع المؤسسات المنتخبة أن توسع قوى العمالة الوطنية والخليجية؟
هل تستطيع أن تفهم أهمية الصناعة التقنية والبرمجية وتكيفها على خريطة الجزيرة العربية القليلة السكان وذات الثروة المؤقتة؟
هل تستطيع أن توجه قسماً كبيراً من الرساميل نحو الثورة الصناعية والعلمية بدلاً من تكديس الرساميل في التجارة ؟
هل تستطيع تحويل القرى والبلدات والأحياء الفقيرة مدناً حديثة متطورة؟
هل تستطيع البرلمانات أن توجه العمليات الاقتصادية وتضع الفوائض في التقدم الواسع بدلاً من الهدر والبذخ؟
بطبيعة الحال هذا يتطلب من العقول المختلفة موضوعية القراءات ورؤية المصالح البعيدة وآفاق التقدم الرحبة من خلالها، بدلاً من الغرق في المصالح الآنية والأرباح العالية العابرة.

صحيفة اخبار الخليج
26 اغسطس 2009