المنشور

تعاون التقدميين مع الدينيين

يضعنا بعض وجهات النظر الجزئية غير الجدلية وغير المتحركة، في زنزانات سياسية، فهي تفصلُ فصلاً متعسفاً بين الحركة التقدمية والإسلام، فلديها أن الفكر الديمقراطي الحديث مناقض كليا للإسلام، وأن على التقدميين أن يصارعوا الدينيين بشكل كامل وساحق، أو أنه على الدينيين أن يتجاهلوا تطورات الحياة والتقدم.
فترى كذلك أن الدينيين هم قوى سياسية جامدة، خارج حركة التاريخ.
ونحن نرى أن أغلب الكيانات السياسية في الحياة الشعبية هي كيانات مُغيرة بهذا الشكل أو ذاك، بهذا الحجم من الوضوح والتبلور، أو بذاك، فهي كلها من القوى الشعبية التي تريد تغييرات في حياتها، وتريد أن تكون لها كلمة في واقعها وثقافتها.
وقد أعطت الحياة البرلمانية الوجيزة فرصة للمقاربة بين التيارات المذهبية السياسية ووجدت نفسها لا تتحدث عن الفقه والأحكام بل تتحدث عن قضايا الناس ومشكلات الاقتصاد وجور الميزانية وقلة ما يُصرف على رفع حياة الناس المادية وغموض سياسة الاستقدام للعمالة الأجنبية وغيرها من القضايا التي يتقاربُ فيها كلُ الناس المواطنين ويريدون لها حلولاً.
بطبيعة الحال هناك الشعارات المحافظة والهجوم على السياحة وبعض الحريات الشخصية، وهي أمور يؤيدها قطاع محافظ من السكان، يرى أن الانفتاح الاقتصادي له عواقب على علاقاته الأسرية وقيمه ولا يؤيد حريات النساء الواسعة.
وهي اختلافاتٌ بين قطاعات من السكان كل له رأيه وعاداته ومفاهيمه، ولكننا لابد أن نقبل برأي هذا القسم المحافظ الكبير من الناس، بصفته رأي الغالبية، من دون أن نعتقد بصحته ونحاول تبصيره بتعقيد المرحلة وكيفية الصمود الحقيقي العميق فيها.
ونحن نريد أن نبتعد عن الاختلافات والصراعات الجانبية ونركز في القضايا الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية العامة المشتركة، أن نجد لها حلولاً، وأن نجد مقاربات بين مصالح العمال البحرينيين ومصالح التجار، بين مصالح أهل المدن وأهل القرى، بين حريات الشركات ومصالح المواطنين ونظافة بيئتهم وسلامة حياتهم، بين ارتفاع الأجور وبقاء الأرباح، بين الأملاك العامة وبيروقراطية إدارتها وملكيتها الشعبية المفترضة غير المحققة، بين تدفق الشركات بكثافة وسرعة مع قلة الضوابط والمراقبة وغموض حقوق البلد عليها الخ…
في حين أن البرلمان والحياة السياسية لا يناقشان ولا يعالجان مسائل المذاهب وتطور الدين، فهذه الأمور أمور بعيدة المدى، من اختصاص العلماء وحراك المذاهب، وهي تجرى لكن عبر الثقافة والفكر وتتطور من خلال تطور الأمم الإسلامية، وزج القضايا الاقتصادية والاجتماعية بالمسائل الدينية وضح خطؤه واكتشف المذهبيون السياسيون أن المطلوب أن يفهموا الواقع ويحاولوا السيطرة على مشكلاته، ولكن تكوينهم المذهبي وخلفياتهم التي تعود لهذه الثقافة غير ذات العلاقة بالواقع المادي جعلاهم غير قادرين على فهم العمل البرلماني بعمق، ولا على ملاحقة الحكومة ومناوراتها الكثيرة التي جعلتهم ضائعين.
اقتصر عملهم على العديد من القرارات برغبة وعلى مجموعة كبيرة من الأسئلة، وكادت أن تغيب مشروعات القوانين، وعمليات المراقبة الفاعلة والتغيير المفيد للشركات الحكومية العامة وفهم ونقد خطط الوزارات المختلفة.
لقد اوضحت الدورة البرلمانية عجز أي قوة سياسية وحيدة في الصراع البرلماني العميق مع الحكومة، وأن المسألة ليست صراعاً بين الدينيين والعلمانيين، ولا صراعاً بين التيار الشيعي والتيار السني، بل المسألة هي في ذيلية البرلمان للحكومة وعجزه عن ملاحقة مستوى الأداء الحكومي في أبسط حالاته.
ولكي تحدث مقاربة معقولة للأداء الحكومي على القوى السياسية المختلفة أن تترك عمليات الصراع والتناحر بينها، وأن تدع خاصة التراشق المذهبي والخندقية الثنائية المؤسفة وترتفع عنها برؤى وطنية، وأن تركز في تصعيد قدرات سياسية وعلمية كفؤة للبرلمان وللبلديات تكون مدافعة بجسارة ودراية عن مصالح الناس، وبطبيعة الحال هذا لن يحدث لدى جميع القوى السياسية، فهناك من يفضل العمل وحده متجهاً للفوز الكاسح واقصاء القوى الديمقراطية الأخرى.
وهذا نجده لدى صقور القوى المذهبية السياسية الذين يرون أن أغلبية السكان في يدهم، وهو المستوى نفسه الذي أنتج لنا البرلمان الحالي الضعيف الأداء، المهمش من قبل الحكومة، مهمش من حيث قدرته على التغلغل في الإدارة وتوجيهها لصالح المواطنين، مهمش لاعتماده على الصوت لا على الفعل.
ومن هنا فإن أي قوة دينية تتبصر هذا الواقع وتدرك المسار المؤسف لصقور المذهبيين، وحاجة البلد وتطوره إلى تحالف عريض من الكفاءات والرموز السياسية، فإنها تتقارب مع القوى التقدمية والديمقراطية، أي تتحالف مع المستقبل، مع تجذير الإصلاحات السياسية والاقتصادية، مع توزيع الفوائض الاقتصادية بشكل عقلاني على المصالح الوطنية العامة وعلى الجمهور، مع تقوية الترابط الوطني والارتفاع عن المعسكرات القديمة والصراع الحضاري الوطني كذلك مع الحكومة كسباق مشترك نحو رضا الشعب.

صحيفة اخبار الخليج
25 اغسطس 2009