نعرف من نظرية النظم أنه لكي تعمل آليات أي نظام من أجل تحقيق هدف ما، فإن الهدف يجب أن يُختار دائماً من خارج النظام ذاته. في النظم غير الاجتماعية أمثلة كثيرة. في الطبيعة الفطرية تنتظم مجموعة حيوانات من نوع ما، وتخرج لتسد جوعها ليس بافتراس بعضها، بل للبحث عن هذا الهدف خارج نظامها. لو حدث العكس لتعطلت آليات النظام الذي، بالتالي، سيختنق حتماً. وكذلك في النظم التي أبدعتها منجزات التقدم العلمي التقني. الطائرة تعمل بجميع آليات نظمها الداخلية لتحقيق الهدف المختار من خارجها – أن تقلع من نقطة لتحط في نقطة في طرف آخر من العالم. تراكم تحقيق الأهداف على مدى خدمتها يعني تَساوي عدد مرات الإقلاع والهبوط بالتمام والكمال، وإلا فلن تكون قد أدت وظيفتها قبل أن تخرج من الخدمة.
ينطبق هذا القانون على نظم الحياة الاجتماعية أيضاً. وسنختار من بينها مجلسنا النيابي الذي حمى وطيس المعارك الانتخابية حوله منذ وقت مبكر هذه المرة. والغرابة أن هذه المعارك تحتدم وسط حالة جماهيرية تصعب قراءة تفاصيلها، وهي تبدو متناقضة للغاية، في الوقت الحاضر على الأقل: الناس ساخطة على أداء المجلس الذي انشغل بالتطاحن الطائفي في داخله فأضاع ثلاثة أدوار، وسيليها الرابع من دون أن يحقق للجماهير الحد الأدنى مما كانت تتوقعه منه، لكن الناس، وتحت دافع الحَميّة الطائفية سينتظمون بشكل يجعل من الاصطفاف الاجتماعي «نحن – هم» يأخذ شكل «طائفتنا – طائفتهم»، وحتى في داخل كل طائفة «فرعنا – فرعهم»، وبهذا فقد تعيد الجماهير بعد الانتخابات المقبلة إنتاج المجلس الطائفي ذاته لندخل دورة جديدة من الزمن الضائع. ولعل التسخين المبكر في الصراعات الانتخابية لا يستهدف تسعير حمى الفرز الطائفي فقط، بل إنه يستهدف أيضاً إجهاض البديل: التيار الوطني الديمقراطي وإبعاده عن التأثير في الحياة السياسية، بما في ذلك عن ساحة البرلمان مجدداً.
للأسى والأسف، وبعكس ما تقول به نظرية النظم فإن مجلسنا النيابي الحالي اختار الأهداف التي «ناضل» من أجل تحقيقها في داخله وليس في خارجه، أي المجتمع. قبل انتخابات 2006 سعت كل طائفة إلى احتلال أكبر عدد ممكن من مقاعد البرلمان. ثم في داخل البرلمان أصبحت كل طائفة كمنظومة تتحرك على أساس أهدافها الداخلية الخاصة، التي أصبح تحقيقها يتطلب مواجهة كل طائفة للأخرى ومحاولة إفشال تحركاتها تحت عناوين قوانيننا – قوانينهم، مؤسساتنا – مؤسساتهم، أموالنا – أموالهم، وزيرنا – وزيرهم، إسكاننا – إسكانهم وهكذا. وقد استغلت المساومات في أروقة المجلس البرلماني وخارجه من قبل ممثلي الكتل الطائفية في كثير من الأحيان لتعزيز مكان بعض أبناء هذه الطائفة، أو فرع الطائفة، وسد أبواب هذه أو تلك من مؤسسات الدولة في وجه الغير. أجيلوا النظر فيما حولكم لتجدوا أمثلة ساطعة في مؤسسات حكومية وهيئات مستقلة وحتى في مؤسسات كبيرة خاصة. على أن المستفيد حقاً من كل هذا الدوران حول الذات ليس أبداً الناس العاديين في الطائفة أو فرعها، ناهيك عن المجتمع برمته، بل نخب تجمعها مع النواب مصالح مشتركة يجب إدارتها على هذا الأساس في داخل البرلمان أو المؤسسات. الناس العاديون بغض النظر عن طوائفهم ومذاهبهم مجرد حطب وقود للصراعات الطائفية عندما يعاد تصديرها من داخل البرلمان إلى المؤسسات فالمجتمع.
إذا شبهنا هذا النظام الاجتماعي بنظام تقني كالطائرة، فسنجد أن طائرة البرلمان تطير إلى لا هدف، إذ إن الطوائف اختارت الهدف داخل البرلمان وداخلها هي. وطبيعي أن ذلك لن يعمل سوى على تعطيل عمل المجلس، إضافة إلى معوقات الآليات المصممة سلفاً. مجلس بهذه المواصفات سيكون مهدداً بالتوقف كلياً في منتصف الطريق. ومن تجربة الكويت وجدنا ولمرات أن إقلاع المجلس يعقبه هبوط اضطراري وكارثي بحَلّه وإعادة الانتخابات المكلفة اجتماعياً واقتصادياً.
التيار الوطني الديمقراطي هو البديل الواقعي للاتجاهات الطائفية، ولذلك فهو غير مرغوب من قبلها. وهي تنظر إليه على أنه يجب أن يبقى عشباً تدوسه الفيلة المتصارعة. وبوعي أو من دونه يتخذ بعض مسؤولي الدولة وبعض رجال الأعمال الموقف ذاته. هذه وتلك وجهان لمشكلة موضوعية أمام التيار الديمقراطي، لكن مشكلته الذاتية هي الأهم. إنه بالتأكيد وبخلاف القوى الطائفية لا يختار هدفه في داخل نظامه، وبالتالي فهو أكثر قدرة على المضي نحو تحقيق الأهداف التي يضعها وفي الوقت نفسه ضمان ديمومة نظامه. لكن المسألة هي أن هذا النظام ذاته لايزال غير موجود. متى ما أوجد التيار نظامه وحدد مكانه ودوره في الفترة الحالية وما بعدها، في خارج البرلمان وداخله فسيكون الشريك الأقدر في بناء دولة ومجتمع المستقبل. الذي يمنعه من ذلك هو بقاؤه مصاباً بعدوى بعض أمراض القوى الطائفية. وهنا اللعبة واضحة وغامضة في الوقت نفسه. قوى طائفية وأخرى ديمقراطية تعتقد أن كلا منها يستطيع أن يستفيد من لعبه مع الآخر. لكن طرفاً يحسبها لعبة صفرية على أساس رابح – رابح، والآخر يريدها رابح – خاسر. التيار الوطني الديمقراطي هو الخاسر حتماً لأنه بلا نظام. أما إذا امتلك نظامه فسيدخل اللعبة قوياً أو قد لا يحتاجها أصلاً. فقد يكون قادراً اليوم أو غداً على الاعتماد على ذاته وتحقيق القدر الذي يستحقه من التمثيل، خصوصاً إذا نظرنا إلى الطوائف بعين الوطن وإلى الوطن اليوم بعين المستقبل.
صحيفة الوقت
24 اغسطس 2009