المنشور

عولمة الجريمة

كما حققت الشركات الغربية الكبرى مكانتها وسيطرتها الكونية عبر عمل الملايين في الغرب والشرق، في نشاط أخذ بعدا مدنيا متصاعدا بعد أن ملأت الدماء كل مسام رأسماله، فإن الشركات الشرقية الجاثمة على هياكل الدول الشرقية، أخذت تصعد هي الأخرى وتنشر سيطرتها وأعمالها الاقتصادية في كل مكان.
انفصال الشركات الغربية عن الجريمة ليس مطلقاً، فلاتزال ثمة مستويات عديدة للأعمال القذرة، ولاتزال المخدرات وأعمال الاحتيال تمثلاً بنوداً كبيرة، لكن الشركات العملاقة غدت شركات كونية وصارت سلعها ذات أهمية كبرى، وكلما دخلت هذه السلع في صميم التطور التقني زاد تناميها وتوسعها في البلدان النامية، ولم تعد غربية.
وفيما هي تنفصلُ عن تاريخ الجريمة فإن الشركات والقوى المالية الكبرى الجديدة في الشرق لاتزال ذات وشائج كبيرة معها.
إن خروج رأس المال من أحضان الدول لوثه بكل ما في المستنقعات السياسية الشرقية من ترابط بين النقود والسياسة، فنجد أن أقوى الرساميل الحكومية العامة في حراك الشرق الاقتصادي، يدور حول المواد الثمينة، سواء كانت نفطاً أم سلاحاً أم مخدرات أم جنساً، فهذه المواد الثمينة هي كسلع تمتاز بالندرة، والأهمية القصوى للسوق وللمشترين، سواء كانوا دولاً أم شركات أم أفرادا.
وكان تحكم الدول في هذه السلع أساسيا، فالثروات النفطية كانت من ملكيات الدول، وعبرها ظهرت الرساميلُ الخاصة الكبيرة في الشرق، وتحولتْ إلى شركات وعائلات، في حين أن السلاح هو الأساس في حمايتها، وأخذ بعض الدول المتطورة عسكريا تحيل سلاحها إلى مواد تجارية أساسية ووسيلة أخرى للحصول على الأرباح التي تفتقد الحصول عليها من خلال سلعها العادية.
حتى السلعتان الأخريان وهما المخدرات والجنس لا تنفصلان عن سيطرات الدول، ومع انهيار الدول الاشتراكية واستقلال الدول الوطنية تحولت هاتان السلعتان إلى سلع عالمية، بسبب رخصها وندرتها وأثمانها العالية.
ونستطيع أن نعتبر حرب إفغانستان هي حرب تجري من أجل سلعة ثمينة اصبح زرعها وإنتاجها بالتالي مُحاربَين، فظهرت دولة متخصصة فيه، وباعة هذه السلعة الذين لا يملكون مورداً للعيش سواها يقاتلون من أجل بيعها ونشرها.
ولا تستطيع الدول الغربية أن تقدم لهم عيشاً، في حين يعيش العديد من جنودها ومواطنيها وتجارها على هذه السلعة.
ومع عجز الدول الاشتراكية والوطنية الجديدة عن التحول إلى دول ديمقراطية وبقاء قوى المافيا هي المهيمنة على الأسواق، تداخلت التجارة العادية بسلع الجريمة، وتجارة السموم بالسلع الغذائية، وصارت حقائب تـُفتش في المطارات وحقائب لا تـُفتش وتحمل الغلال السمان.
ويترك المسئولون التجارة الدنيا للفقراء والمساكين وهم يحتكرون التجارة العليا.
إن تطور الديمقراطية مرتبط بتقليص تجارة المحرمات.
إن تشوه عملية بيع السلع لا يقتصر على إيجاد مسارب كبيرة لسلع الجريمة بل كذلك على عدم وجود فواصل في هذه الدول بين السلع والسيطرات السياسية، بين الأجهزة الحكومية التي تعمل للمواطنين وكونها أجهزة تعمل لصالح كبار الموظفين كذلك، بين الأملاك العامة غير المحددة والمائعة في الخرائط الخاضعة كل فترة للتغيير وبين أملاك الناس المتقلصة والمصادَرة والمشتراة تحت أشكال الضغوط كافة.
في دول ضاعت فيها الحدود بين القانون والجريمة، يمكن للإدارات التحكم في العمليات الاقتصادية والمتاجرة في القوى العاملة، التي تدخل فيها علاقات محرمة دوليا كالتجارة في الجنس وفي الأطفال، وهي التجارة التي قفزت أرقامها خلال العقدين الأخيرين بشكل هائل، وخاصة من قبل دول شرق وجنوب آسيا، ودول افريقية عديدة.
إن التفكك في منظومات الدول الشرقية الاشتراكية والوطنية المختلفة وغياب الرقابة والشفافية فيها ساعدا على التجارة الواسعة غير القانونية في السلاح وفي تلك السلع المحرمة.
تصاعدت التجارة بين الدول الاشتراكية السابقة والوطنية، وجرى قسمٌ كبير فيها للسلع المحرمة. أكثر من مرور هذه السلع إلى الغرب المراقب واليقظ وذي المؤسسات الديمقراطية الحقيقية، فالدول الشرقية الاستبدادية ذات الأجهزة الملوثة والصحافة الضعيفة غير قادرة على اكتشاف العمليات المعقدة للتهريب الحديث، وكلما ازدادت الدول الشرقية تكوناً جديداً زادت فيها العمليات المشبوهة وغدت حدودها مفتوحة للتجارات السوداء.
وحين تقوم صحف في العالم الثالث بكشف علاقات مسئولين بمسائل تجارة المخدرات تـُلفق لها قضايا أخرى وتـُجر للمحاكم، ولهذا فإن من الاستحالة قيام الصحافة أو المحاكم بكشف شبكات تهريب المخدرات على سبيل المثال، وغالبا ما يتعرض الموزوعون الصغار للسجن فقط.
شبكات عولمة الجريمة متركزة على دول العالم الثالث بصورة كبيرة وإن كانت الدول الأخرى لا تخلو من ذلك.

صحيفة اخبار الخليج
22 اغسطس 2009