المنشور

تصفية التركة الثقيلة

تترك الأنظمة الشمولية جراحاً كبيرة في جسد المجتمع، ومهما كانت التغييرات في مجال الاقتصاد، فإن التغيير الحاسم لتجاوز مراحل تلك الأنظمة السابقة، يكمن في معالجة جراح المواطنين وإشكاليات التجاوزات التي أهدرت كراماتهم وأشخاصهم وأفراد أسرهم وجماعاتهم.
في مثل هذه الأنظمة فإن الملفات مفقودة، والضحايا مجهولون، وبهذا فإن التغيير السياسي المطلوب المتجه نحو تصفية آثار الماضي وإيجاد لحمة وطنية أو قومية لا يتحقق.
بسبب أن التركة المعتمة، التركة التي اتفق الجميع على تجاوزها، مازالت تشرشر بالأصوات وتـُستغل وتتفجر سياسياً.
حتى الآن لم يقم الاتحاد السوفيتي السابق ووريثته جمهورية روسيا بتصفية هذه التركة وإغلاق الملف رغم الملايين الذي وقعوا ضحايا.
أو حتى جمهورية الصين الشعبية أو مصر أو غيرها، مثل هذه التجارب لم تستطع ذلك رغم ضخامة الأخطاء القانونية بحق الأفراد والجماعات.
وروسيا تمثل أكبر النماذج في رأسماليات الشرق المطلقة السلطات ذات الذيول الطويلة من الضحايا!
وهناك الكثير من الدول التي لم تقم بذلك وتركت تاريخها في غموض.
ليست جراح الناس مثل أخطاء المصانع وتجاوزات الدوائر ودهس الكلاب في الشوارع.
الجراح الغائرة في النفوس، الشعوب التي نـُقلت من مناطقها، العائلات التي فــُقدت، الكرامات التي أُهدرت، العذابات التي مزقت النفوس والأسر والشعوب.
الأفراد المعزولون الضحايا الذين وجدوا أنفسهم يُضربون ويهانون، ليس من ثمة شيء يرمم كرامتهم أقل من الاعتراف بحقهم.
الكلمة الاعتذارية المطالبة بالصفح من الأنظمة، الاعتراف بالخطأ على رؤوس الأشهاد، هو بوابة التغيير النفسي للضحايا.
إن الأحقاد النفسية المتولدة من الإهانات هي مولدة الغضب الهائل المتكون على مدى سنين، والذي ينمو كراهية وحباً للانتقام، وإذا التحم بنفوس الملايين من البشر فإنه يلغي أي محاولة للتغيير، فحب الانتقام لدى الناس أقوى من التجاهل والصمت، هو نار الثأر لا تنطفئ.
والأكثر من ذلك تلك الهوة التي لا تـُعبر بين الجلاد والضحية.
الهوة التي يرقد فيها الضحايا وأشباح الكراهية والعنف والحقد، الهوة التي تتوالد فيها برامج.
في جنوب افريقيا نموذج رائع للإصلاح الديمقراطي وتصفية التركة الثقيلة والهائلة للنظام العنصري والدموي السابق.
إذا عرفنا أن نظام قهر المواطنين السود قد جرى تشكيله على مراحل طويلة بدءاً من القرن التاسع عشر وتكرس طوال القرن العشرين، وحدثت اثناء ذلك كوارث لحياة القبائل والشعوب السوداء، فإن قلب هذه الصفحات الدامية كان عملاً مبهراً.
لقد دخلت جمهورية جنوب افريقيا تاريخ الحداثة منذ زمن بعيد، وغدت دولة صناعية متطورة، ولم يكن لها تاريخ ديمقراطي مع ذلك، فكيف انتقلت بسرعة لتكون متجاوزة لدول شرقية استبدادية عريقة؟
وافقت الأقلية البيضاء على التسوية والتنازل عن الحكم، ووافق حزب المؤتمر الافريقي على بقاء النظام الرأسمالي الذي تملك أغلبية مناجمه ومصانعه وبنوكه الأقلية البيضاء، وعلى إزالة مظاهر العنصرية والقضاء على آثار الماضي بالمصالحة والاعتراف بالأخطاء.
لم يزلْ الاستغلال الرأسمالي والكثير من المشكلات لكن اسوأ صفحات التعذيب وسوء المعاملة أُزيلت.
وقد عُرضت أفلام عديدة تصور هذا التحول، ولم تكن هذه العملية التاريخية سوى سيارات تنتقل في المدن والقرى وتجري جلسات بين قادة الشرطة والمعذبين وبين ضحاياهم من المناضلين ومن العائلات.
كان اعتراف هؤلاء بأخطائهم وسماع ظروفهم واعتذارهم يولد حالات من التسامح والنقد والبحث واكتشاف أخطاء مشتركة.
ورغم أن المغرب لم يشهد ثورة صناعية وتطورات اقتصادية هائلة كجنوب افريقيا لكنه عـُرف بدور المؤسسة الملكية كموحدة للشعب المغربي وكقائدة لنضاله الوطني التحرري، ورغم ما شاب زمن ما بعد الاستقلال من صراعات على خيارات البلد السياسية والاجتماعية، فإن المؤسسة الملكية راجعت مسلكها السياسي، ورأت فيه العديد من الأخطاء والتجاوزات، وكان اعترافها بذلك تاريخياً وأدى إلى التفاف شعبي هائل حولها وتوطدت الوحدة الوطنية لتحرير الصحراء بشكل لم يسبق له مثيل. وكان تاريخ المغرب عموماً تاريخاً لا يتسم بصراعات دموية حادة وحتى لو كان فيه إلا ان الإرادة السياسية المتقاربة للمغاربة لعبت الدور الأكبر في هذا الإنجاز.

صحيفة اخبار الخليج
21 اغسطس 2009