توافقت الاستنتاجات والتحليلات التي أدلى بها محمد حسنين هيكل الى قناة “الجزيرة” (حلقة مساء يوم 6 أغسطس الحالي) حول شخصية عبدالحكيم عامر قائد الجيش المصري خلال هزيمة يونيو 67 مع الاستنتاجات التي أدلى بها قبل نحو شهرين ونيف الصحفي والمحلل السياسي الفرنسي الكبير ايريك رولو الى قناة “روسيا اليوم” من حيث عدم صلاحيته بالمرة لأن يكون قائدا للجيش. والجدير بالذكر ان المشير عبدالحكيم عامر لم يكن فقط قائدا للجيش في منصب القائد العام للقوات المسلحة بل النائب الأول لرئيس الجمهورية حيث كان يتمتع بثقة مطلقة لا حدود لها من قبل رفيق دربه في الثورة وقائدها الرئيس جمال عبدالناصر، ويتفق رولو وهيكل كلاهما كل على حدة في أن “عامر” طيب القلب وذو معدن انساني نبيل، لكن هذه الميزة أو الخصلة انسانية لا علاقة لها اطلاقا بمتطلبات تؤهله كقائد عسكري محنك وذي خبرات مجربة ومواهب وكفاءة معتبرة لا تقبل النقاش.
المثير والمحير في الامر ان عبدالحكيم عامر، وكما روى هيكل ليس في “الجزيرة” فقط بل كتب عن ذلك قبلا في كتبه الكبيرة المهمة في الثمانينيات، أثبت بامتياز فشله الذريع في القيادة العسكرية خلال أكثر من محطة تاريخية حاسمة في تاريخ مصر والعرب الحديث وتحديدا ابان الزعامة الناصرية وسنتحدث عن هذه المحطات بعد قليل. وطبقا لايريك رولو فإن عبدالحكيم عامر كان مصمما أمام عبدالناصر على التصعيد مع اسرائيل عشية الحرب والمبادرة بالضربة الاستباقية على طريقة، إن جاز لنا التعبير، “نتغدى بيهم قبل ما يتعشوا بينا”، على الرغم من شكوك ناصر القوية في جاهزية الجيش لخوض الحرب وضغوط السوفيت عليه بألا تكون مصر هي البادئة باطلاق النار. وكان عامر يلح على عبدالناصر بـ “تطنيش” نصيحة السوفيت لأن اسرائيل مصممة على ضرب مصر، سواء التزمت ألا تكون البادئة باطلاق النار أم لم تلتزم.
من الواضح جيدا ان ما يربط عبدالناصر من علاقة صداقة حميمة وقوية جدا بعبدالحكيم عامر كان لها أثرها العاطفي في تمسك الأول بالثاني وجعله الرجل الثاني في السلطة والجيش معا، حتى على الرغم من الأخطاء القاتلة التي وقع فيها المشير، والتي حدد هيكل 3 من أبرز محطاتها:
الأولى: في حرب السويس 1956 حينما أصر على عدم سحب القوات المصرية من سيناء لتفادي ابادتها بالكامل من قبل هجوم العدوان الثلاثي، ثم جاء الانسحاب بعد تخبط وتردد شديدين، وكان رأي عامر ان لا شيء في قاموسه العسكري اسمه “الانسحاب”، وكان يرفض تدريس تكتيك الانسحاب لطلبة المعاهد أو الكليات العسكرية.
الثانية: فشله الذريع في أحداث انفصال سوريا عن دولة الوحدة (الجمهورية العربية المتحدة في عام 1961)، حيث كان المشير هو نائب الرئيس وممثله المقيم في الاقليم الشمالي (سوريا)، لكن زمرة الانقلاب انطلقت من مكتبه وهي الزمرة التي قامت بإجراء تغييرات وتعيينات في الجيش السوري من دون أن يكون واعيا لخطورتها على مشروع الوحدة، وهذه الزمرة هي نفسها التي أخذته رهينة للضغط على القيادة في القاهرة للاستسلام لانقلاب الانفصاليين.
الثالثة: فشله الذريع في قيادة القوات المسلحة المصرية في اليمن، حيث كان الفشل أيضا مزدوجا للقيادة السياسية التي زجت الجندي المصري في ظروف بيئية اجتماعية وجغرافية قاسية جدا على حد تعبير هيكل، وغريبة عليه تماما والاكثر من ذلك، طبقا لهيكل، فضيحة موافقة عامر على معالجة فشل القوات المصرية لكسب زعماء القبائل الى جانب مصر بالحل الذي أتى به الأمير سعود حليف عبدالناصر حينذاك (شقيق الملك فيصل العاهل السعودي الراحل) باحضار صناديق مليئة بجنيهات استرلينية ذهبية تقدر بمليون جنيه لرشوة زعماء القبائل والمشايخ اليمنيين أو استمالتهم الى جانب عبدالناصر والوجود العسكري في اليمن، وهو ما عبر عنه هيكل بانزعاجه الشديد من هذه الطريقة لكسب مصر ثقة الشعب اليمني في حين دافع المشير عن فكرة سعود.
وبالطبع فإن المحطة الرابعة من أخطاء المشير كانت الهزيمة التي كانت بمثابة الضربة القاضية التي أودت ليس فقط بالمشير نفسه ثم عبدالناصر، بل بنظام ثورة يوليو الوطني نفسه بعد رحيل قائدها عام .1970 وقد أوضح رولو كيف ان الجيش المصري تحت قيادة المشير يعاني الفساد المستشري والمحسوبية، وكيف كان المشير عامر ينفرد بترقية ضباط وتعيين جنرالات لا خبرة عسكرية لهم، ويجرى تهميش ممن يتمتعون بالخبرة والوطنية الصادقة.
كما أوضح ايريك رولو انه على الرغم من ان عبدالناصر كان هو القائد الأعلى للجيش فإنه في ظل تركه كل شئون المؤسسة العسكرية لصديق عمره عبدالحكيم أضحى الجيش في عالم نائي قائم بذاته لا صلة لعبدالناصر به يتصرف به المشير وزمرته كما يشاءون. حتى وصلت الفضيحة السياسية مداها يوم الضربة الاسرائيلية في الخامس من يونيو 1967، فمع ان عبدالناصر هو القائد الاعلى للقوات المسلحة ورغم علم قادة الجيش بما لحق بالطيران العسكري على الارض من ضربات قاصمة متتالية فإنه ــ عبدالناصر ــ ظل لا يعلم بخطورة الضربة الى ما بعد ظهر ذلك اليوم المشؤوم وتحديدا بعد مرور أكثر من 6 ساعات من الضرب المتواصل في ذلك اليوم على المطارات العسكرية.
ويخطئ من يظن ان المشير حينما أقدم بعدئذ على الانتحار بعد شهرين ونيف من النكسة في ظل ظروف غامضة وملابسات سياسية كان ذلك بمثابة الفصل الاخير من مأساة قائد عسكري فاشل، بل كان الانتحار خير ما يجسد في الوقت نفسه على نحو مكثف بليغ رمزيا لانتحار الثورة وقائدها سياسيا في تلك الهزيمة المروعة.. فما كانت أخطاء المشير القاتلة الا رمزا وانعكاسا لأخطاء الرئيس عبدالناصر نفسه، ولأخطاء الثورة معا التي أسدل الستار على الفصل الاخير منها برحيله الفاجع بعد 3 سنوات فقط من النكسة، ومن انتحار رفيق عمره عبدالحكيم عامر.
صحيفة اخبار الخليج
20 اغسطس 2009