إحدى أهم القضايا التي كانت موضع جدل وإرباك في أداء التيار الديمقراطي، وموضع انتقاد من قبل الكثيرين على هذا التيار هي طبيعة إدارة علاقته مع التيارات الدينية، وطريقة فهم صعود تيارات الإسلام السياسي. وهنا أيضاً يمكن القول إن هذا الأمر ليس شأناً بحرينياً فقط، وإنما هو ظاهرة عربية، يواجهها اليسار في لبنان وفي فلسطين وفي مصر وفي العراق وفي بلدان عربية أخرى. صعود التيارات الإسلامية يتطلب فهماً جدلياً، لرؤيته من جوانبه المختلفة، وهي جوانب متناقضة، مما يقتضي دراسة اجتماعية وفكرية وسياسية معمقة لهذه الظاهرة، التي تزداد تعقيداً في البلدان القائمة على التعددية الطائفية والعرقية كما هو لبنان والعراق، وعلى الثنائية المذهبية كما هو الحال في البحرين، مع ما ترتب على هذه الثنائية من انقسام التبس بمظاهر سياسية تتمثل أكثر ما تتمثل في العلاقة مع الدولة. التيار الديمقراطي في البحرين، الذي كنا نعرفه باسم الحركة الوطنية، باتجاهاتها القومية واليسارية، التي تسيدت الموقف في المجتمع على مدار عقود منذ منتصف القرن العشرين، وجدت نفسها في حال من التراجع والضعف أمام صعود التيارات الإسلامية وتسيدها للموقف تحت تأثير العوامل التي أتينا على بعضها، وزاد من التباس الأمر أن مَن في موقع المعارضة من هذه التيارات تبنت بعض المطالب والشعارات والأهداف التي كانت الحركة الوطنية ترفعها. وفي تقديرنا أن التيار الديمقراطي وقع في تطرفين في تعاطيه مع هذه الظاهرة، تطرف استخف أصحابه بها، وأنكروا طابعها الجماهيري الذي حملها مضموناً اجتماعياً يتخطى وعي قادتها المحكوم بإطاره المذهبي المحدود، ذلك أن الفقراء من الناس الذين يتطلعون لحقوقهم المعيشية، والمحكومين بروحية الاحتجاج العفوي وجدوا في هذه الحركات ملاذاً في غياب التيار الديمقراطي وعجزه عن قيادتهم في الدفاع عن هذه الحقوق كما كان يفعل في الماضي، يوم لم يكن له من منازع. أما التطرف الثاني فهو ذاك الذي أبهرته هذه الظاهرة، على طريقة الانبهار بالظواهر الجديدة عادة، وحجبت قوتها الجماهيرية وامتدادها في الشارع عن بصيرته محدودية الأفق الذي تتحرك فيه هذه الظاهرة، بالنظر إلى طبيعة برنامج من يوجهها من رجال دين أو قادة ميدانيين، الذين حتى لو تبنوا مطالب وشعارات تبدو شديدة الجذرية، فإنها تنبعث من وعي مذهبي محدود، هدفه الانتصار للطائفة والسعي لرفع المظلومية عنها، وليس الحرص على الغطاء الديني وتوظيف المخزون الثقافي والديني الخاص بالملة أو المذهب في النشاط السياسي مجرد مظاهر رمزية، وإنما هما تعبير أصيل عن جوهر هذه الحركات. ليس بوسع التيار الديمقراطي الناشط أن يتجاهل هذه الظاهرة، ولا قوة حضورها، وليس صحيحاً أن عليه أن يدير ظهره لها، كأنها ليست قوة مؤثرة في مجمل الحراك السياسي في البلاد، ولكنه مطالب، بالمقابل، بأن يتحرر من كافة الأوهام في علاقته معها، فيحرص على المسافة الضرورية، من الخطاب ومن النشاط، بينه وبينها، وفي كلمات أخرى فإنه مطالب بأن يظهر بوضوح وشجاعة تمايز برنامجه الاجتماعي الفكري عنها، وطبيعة فهمه المختلفة للشعارات السياسية التي يبدو ظاهراً أنها توحد الجميع، لكن ليس شرطاً أن لدى الجميع الفهم نفسه لمضمونها.. للحديث تتمة.
صحيفة الايام
20 اغسطس 2009