الظاهرات التي وصلت للحروب والأزمات الطاحنة وسيول من القتلى ثم انجلت عن دخان فكري وقلاقل نفسية واضطرابات وصراعات الاخوة الدامية، ليست هي فقط التي خلقت حالة الانفصال الشعبية عن الحركات السياسية الدينية، فثمة شيء أكبر من هذا، شيء هائل عميق في النفوس، تخلفه كل حركة واعدة بالانجازات والعظمة ثم تترنح مقتولة كأنها لم تكن!
ولا تعرف الأسباب ومن القاتل ولكن ثمة أحساس بالفقد الكبير!
أهم الأسباب في ظني هو الحلم الرومانسي الذي تم خلقه، وهو حلم ظهر في كل حركة سياسية عربية وإسلامية عامة، الحلم بأن المنتظر قد جاء وحلت ساعته لكي يملأ الأرض عدلاً.
وهنا يتداعى إليه الناس المأزومون في عيشهم وأوضاعهم الاقتصادية السيئة لكي يجدوا الحل النهائي الشافي.
كم من مرة ظهر من يدعو نفسه المهدي؟ إنها فكرة عريقة في تاريخ المشرقيين وانتقلت للتراث الإنساني، وتفجرت في أنحاء العالم الإسلامي القديم في ثورات لا تعرف التوقف، ثم لم تسفر سوى عن حراك سياسي وتشكيل مذاهب وجماعات.
وقد ذهب هؤلاء الناس المأزومون معيشياً وسياسياً لحركات سياسية كثيرة، خاصة تلك الحركات التي تؤهلها قوانين التطور الاجتماعي وسببيات السياسة أن تقود، فقد ذهب هؤلاء الناس أنفسهم لحركات مختلفة المشارب الفكرية، لكونها عملت على زحزحة أزماتهم وقيادتهم في صراع لتحرر وطني ولتقدم اجتماعي.
هناك جذور عريقة للحركات الإسلامية في تاريخنا، فقد كانت هي مادة الأمم الإسلامية للصراعات السياسية الطويلة في هذا التاريخ، وللمقاومة ضد الاحتلالات المختلفة في بداية العصر الحديث.
لكن تصاعدها في العقود الأخيرة كان نتاج أزمة سياسية وأزمة فكرية عميقة في العالم الشرقي خاصة.
كان سقوط ما سُمي المعسكر الاشتراكي الذي لف العالم الشرقي في منظومة كبرى واخترق الغربَ نفسه عبر أحزابٍ وحركات ودول، بمثابة زلزال كوني، فتهاوت عماراتٌ كبرى، وكانت آثارها النفسية والفكرية هائلة ولاتزال.
فلأول مرة يصل قسمٌ كبيرٌ من البشر إلى الإيمان بالعلوم وبامكانية سيطرتها على الواقع، وأن الإنسان يستطيع أن يضع حداً للأشباح واللاعقلانية والخرافات، وأن يسيطر على مصيره تمام السيطرة.
لكن في عملية الانهيار التي أُدلجت بقوة لدى القوى المعادية لها، والمستفيدة من عالم الاستغلال والخرافة والاستعمار، تم التوجه إلى النقيض، إلى رفض العلوم، وإلى أن الإنسان ما هو سوى كائن ضعيف محكوم، وما عليه سوى إطاعة القدر والقبول بمصيره كمخلوق.
إن التوجه إلى النقيض كان بسبب عدم وجود طبقات متعلمة وصناعية قوية في الشرق الإسلامي خاصة، وكان الناس المأزومون من الطبقات الشعبية المعدمة هم الذين يُحركون عبر تنظيمات مختلفة تقود العملية ومكونة من متعلمين، تستغلُ مواد فكرية عتيقة، وبدلاً من أن تقول لهم عن دور الكادحين في قيادة النضال، وأهمية قراءة العلوم لكشف الأوضاع الاقتصادية المتردية، تقول لهم عن دور الإيمان في التصدي للكفر، وتلغي كلمة الكادحين وتحل محلها المستضعفين، لكون هذه الكلمة عائمة، لا تعبر عن طبقات، ويتم أخذ مصطلحات القرآن بتوجيه ايديولوجي خاص، وتـُقحم المواد القرآنية في العمل السياسي ويتم جذب عصر قديم إلى الوقت الراهن الذي لم تستطع الحداثة فيه التسيد أو حتى الانتشار المعقول.
كانت القيادات الدينية في حراك سياسي متسرع، تريد الاستفادة من هذا الانهيار(الاشتراكي)، من هذه اللحظة الزلزالية في التغير الكوني، وهي لديها مؤسساتها الدينية المذهبية القديمة، ويقود الفراغ إلى ملئه عادة، وتـُستخدم الأفكارُ الدينية المطلقة للحظةٍ سياسيةٍ صغيرة، وتـُصور على أنها انتصارٌ نهائي لقوى الخير، وهذا من جهة أخرى يتوافق مع كونِ انهياراتِ الرأسماليات الحكومية الشرقية ذات النمط الكوني، المخفقةِ، بحاجةٍ للعودةِ لتقاليدها القومية والوطنية، وإلى أسواقِها، وهذا ما يؤدي كذلك إلى انبعاث تقاليدها الدينية هي الأخرى بعد القمع.
لكن العودة للتقاليد الدينية في الأنظمةِ الاشتراكية الحكومية المتحولة لبعض قوانين الرأسمالية الغربية، هي من أجل تعميق الحداثة، ولمقاربةِ الدولِ الغربية العلمانية الديمقراطية، وليست عودة للوراء كما فهمت الحركاتُ الدينية الإسلامية التبدلَ التاريخي.
في حين ان أهدافَ هذه الحركات الدينية(الإسلامية) هي العودة للوراء، لنماذجِ السلطةِ الراشدة القديمة، دون أن تصلَ لنموذجٍ محددٍ في ذلك، فهي لا تمتلكُ التصورَ الفكري في هذا، ولا القواعد الاقتصادية المماثلة، وهو أمرٌ يقود لبعث الخلافات القديمة من دون أسس توحيد المسلمين كما جرى في السابق، وإلى حدوث فسيفساء مذهبية هائلة، تقومُ بالانتشار الناري في كل مكان.
لم يكن للدول الإسلامية هياكل اقتصادية قوية تمنع سقوطها في هاوية التفتت من الناحية السياسية خاصة، لكن التفتت التنظيمي السياسي يقود لانقسامات وحروب، أي إلى تدمير التطور الاقتصادي نفسه للدول التي وصل فيها هذا الانقسام الواسع.
إن ما تطلع إليه قسمٌ كبيرٌ من عامة المسلمين باعتبار هذه الحركات تمثل أملاً لتغيير اقتصادي يرفع مستوى معيشتهم أمرٌ لم يتحققْ في العديد من المناطق، وتم اختبار ذلك عبر عدة عقود، وظهر جيلٌ كامل لم يعش هذه الفترة الوردية الدينية الحلمية، بل تشكل على كوابيس، ويريد الخروج من هذه القوالب التي أدلجت الإسلامَ في أنماطٍ ضيقة رهيبة.
صحيفة اخبار الخليج
19 اغسطس 2009