لا يمكن النظر إلى صعوبات، وربما أزمة التيار الديمقراطي في البحرين، بمعزل عن أزمة نظرائه في العالم العربي، وعن مجمل الأزمة التي وجد التيار اليساري والديمقراطي في العالم واقعاً تحت تأثيرها، بعد المتغيرات الدولية الحاسمة التي تشكلت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وسيادة الأحادية القطبية، والفراغ الناجم عن تراجع دور القوى الديمقراطية عامة. يعنينا هنا بشكل رئيسي الإرباك الفكري والأيديولوجي الناجم عن هذه المتغيرات، حين وجدت قطاعات كثيرة نفسها في حالة اللا يقين من صحة خياراتها السابقة، واللا جدوى من أفق أفضل ينتظر هذه القوى إذا ما استمرت في نضالها. مثل هذه الحالات من فقدان الأمل والشعور بالخيبة والإحباط أمر ملازم للحركات الثورية في كل مكان عقب كل هزيمة أو انكسار يواجهها، على مستوى بلدانها، فما بالنا نتحدث عن »هزيمة« ذات طابع دولي شامل. فاقم من هذه الحالة في ظروف العالم العربي صعود تيارات الإسلام السياسي في بلدان مفصلية مثل مصر وفلسطين ولبنان، فضلا عن بلدان في المغرب العربي، وعلى نحو ما أشرنا أمس فان البحرين لم تكن بعيدة عن مثل هذه التأثيرات التي ضاعف منها تأثيرات الثورة الإسلامية في إيران القريبة جغرافياً وثقافياً من بلادنا، وهذه التيارات، ونقول مرة أخرى، حتى لو حسنت نوايا القائمين عليها، هي بطبيعة برامجها الاجتماعية والفكرية تمثل مساراً نقيضاً للقوى الديمقراطية إذا ما تحدثنا عن الأفق التاريخي. ستجد هذه الأمور انعكاساتها علينا في صور من صور البلبلة الفكرية، على الأقل في أكبر تنظيمين للتيار الديمقراطي في البلاد وهما المنبر التقدمي والعمل الوطني الديمقراطي، حيث وجدت تجليات لهذه البلبلة في أطروحات عدة، فوجدنا من يغفل ما شهده العالم من تغيرات كبيرة ويتصرف كأن شيئاً في العالم لم يحدث، فيما وجدنا بعض الآراء التي تقترب من مفاهيم الليبرالية الجديدة، التي تغفل مصالح القوى الاجتماعية التي يفترض أننا نمثلها، وتغض الطرف عن الطابع الرجعي اليميني لليبرالية الجديدة التي شكلت القاعدة الفكرية لعدوانية المحافظين الجدد. ومن جهة أخرى جرى إسقاط بعض أطروحات المفكر المغربي محمد عابد الجابري عن »تعويم الايدولوجيا«، على واقع غارق في الايدولوجيا من الرأس حتى أخمص القدمين، بل إن »تعويم« الايدولوجيا هو بذاته أشد أخطر الايدولوجيا فتكاً، لأنه يزيح الحدود بين البرامج المتناقضة جذرياً. نطرح هذه الأمور لا من باب الترف الفكري، وإنما من منطلق الشعور بأن وضوح الخط الفكري للتيار الديمقراطي هو ضرورة من ضرورات شحذ همته، واستنهاض دوره، ونحن لا ننطلق من أية أوهام في هذا السياق، لأننا على معرفة جيدة بالتضاريس الفكرية المختلفة لمكونات هذا التيار، وهي تضاريس نحن معنيون بأخذها بعين الاعتبار، لكن حتى ونحن معنيون بهذا الأمر، لابد من قاعدة حد أدنى فكرية تنأى عن الأطروحات التي كانت احد أسباب تنازل التيار الديمقراطي عن دوره المستقل، رغم أن في هذه الاستقلالية منطلق الدور المحوري المناط به. وهذه الدعوة للمراجعة يجب أن تُقابل بصدر رحب وبأريحية، فهي ليست موجهة لطرف دون سواه، وإنما هي موجهة للجميع بدون استثناء، وهي تستدعي منا جميعاً الشجاعة في ممارسة النقد الذاتي، كنقطة انطلاق نحو المستقبل. غداً نتابع.
صحيفة الايام
19 اغسطس 2009