السياسة تقام في الشرق على الرمال، لا شيء ثابتا، لا شيء مطلقا، وغالباً ما تعشق الأحزاب والجماهير الشمولية شعارات التحول المطلق، والرسالة السماوية، والنشور الاشتراكي، والبعث الكامل العادل.
كانت البدايات الحقيقية في فهم الشرق والنضال من أجل تغييره تبدأ من “الخلية”، هذا الكائن العضوي المجهري البسيط، الذي من خلاله فهمَ الشرق أول مرة بعض ظروفه وقضاياه، فناضل على شكل يومي وملموس وعقلاني، ومن خلال الحوار مع الإنسان الفرد، وفهم ظروفه وجذبه لتغيير عاداته وانخراطه في العمل البسيط المتراكم خلال سنين.
ارتبط بهذا مفهوم التضحية ونكران الذات والتوجه نحو الأميين والعامة وتثقيفهم، مثلما أنه في التجربة العالمية تحققت إنجازات البناء الكبيرة والتصدي للتطرف الفاشي، وهذا خلق جماعية التفكير، وجماعية النضال على مستوى كوني، وخلق مدارس التعلم الذاتي في كل فرد، وفي كل بيت، وفي كل جماعة.
الخلايا الحية تخلق التطور، مثلما يقول المثل العامي (الحي يحيك والميت يزيدك غبناً)، ومع زوال هذه الطرائق في الفهم والعمل السياسيين في الشرق، وحلول منظومة النادي والحزب المركزي الشللي، والجماعة المرتبطة بالمصالح الخاصة والحكومية، انفلشت الأحزاب الاشتراكية وحلت الندوة والمناحة الحزبية وشلة الثرثرة وجماعة الاستفادة، ولم تعد التضحية ولا التوجه للبسطاء عماد العمل السياسي.
في زمن الأحلام الاشتراكية وليست الحقائق الاشتراكية اندفعت قوى الملايين نحو المثل، وانتشرت تضحيات هائلة، بفضلها ارتفعت الكرة الأرضية لموقع جديد، ثم انقشعت الأحلام وجاء الواقع بقوة شديدة، كصدمة كونية، كاصطدام كوكبين، وكان الكثير من العاملين والمضحين قد ذابوا في المثل، وكثيرون عملوا معهم، واستفادوا وصعدوا، فتفارقوا، أصحاب المثل والأحلام لم يجدوها، نزلوا على الأرض العارية، وجدوا أنهم خسروا رفاقا وناسا، وخسر بعضهم أوطاناً وخيرات، وظروفاً ماضية جيدة، وصعد أناس على أكتافهم، وغيروا كلماتهم وبدلوا مواقفهم.
تبدلت البلدان، تبدلت الأحزاب..
مع كل تشكيلة جديدة، مع كل تغيير في البناء التحتي، ينهار البناء الفوقي، تنهار مؤسسات وأفكار وتنظيمات وعلاقات وطنية وعالمية، وتحل أخرى، مقاربة للبناء التحتي الجديد.
رأسماليات دول كبرى تجاوزت بناء تحتيا شائخا، لم يعد البناء قادراً على تطوير قوى الاقتصاد المتجمدة، تتفجر ثورات سياسية ويحدث خراب للعديد من الموارد، ويتبدل عالم.
كل ثورة شرقية حققت مسافة من التطور الاقتصادي الكبير عبر قيود وسيطرة، تثور عليها قوى الإنتاج في الإنسان أولاً، تزيلها ثورة جديدة.
أهم قوى الإنتاج الإنسانية هو الإنسان نفسه، مجسداً بهؤلاء العاملين والعاملات، الذين لا يقبلون البقاء كماشية الحقول، يندغمون في قوى التقنيات الثورية العالمية، لا يشاهدون فقط التلفزيون بل يريدون صناعته وصناعة برامجه، الغرب المتقدم يستغل ويثور الشرق، والشرق يوسع أسواق وثورات الغرب التقنية، العالم تاريخ مشترك، الإنسانية موحدة بشكل برمجي، بشكل ثوري متواصل.
الكثيرون يسقطون بين ثورتين، لم يفهموا الثورة الأولى ولم يفهموا الثورة الثانية، ظنوا أنفسهم ثوارا، فتجمدوا في أشكال الماضي، وحين جاءت المضامين الجديدة رفضوها.
الجدل التاريخي لا يتوقف، لا يوجد شيء نهائي، لا توجد ثورة أخيرة، العالم الاجتماعي لا نهائي، لا توجد “فورمة” أخيرة، أو شكل سوف يبقى فيه للأبد، ليس لديك سوى منهج التغير نفسه، العالم سيرورة.
الشرقيون وهم يؤبدون الأفكار والمنظومات السياسية ويحرقون لها البخور يكتشفون بعد كل بضع سنوات أن أصنامهم العزيزة تتساقط مثل أكوام الرمال، فهم إما أن يكفروا بكل شيء وينحازوا إلى اليأس والمصالح الخاصة ويفقدوا الأمل في المثل، وإما أن يبحثوا لهم عن معبود آخر يلوذون به من نهر الحركة الذي لا يعرف التوقف. يبحثون لهم عن أصنام جديدة تعطيهم طمأنينة.
تفكيرهم المطلق المعلق بالخارج السرمدي يصور لهم بأن التاريخ واقف، والنظم جامدة، ولكن التطورات والانهيارات جزء من حركة التاريخ المعقدة.
هل سقطت المثل الأخلاقية؟ هل سقطت الأحلام الاشتراكية؟
كلا إنها لا تسقط، بل تعاود التشكل في زمن جديد، اصبحت أكثر تركيبا، أكثر بعدا، وليس كل من في “الخانة” الطبقية يغدو عدوا، وليس العمال وحدهم في دائرة النضال، وغدت التحالفات الواسعة مثل الطليعة مطلوبة.
لكن يبقى الاحتكاك مع الجمهور وتطويره وهو الجمهور المتعلم والمدرسة، هما الجدلية الباقية في عالم التحولات الاجتماعية.
صحيفة اخبار الخليج
18 اغسطس 2009