لم تكن مقولة إن السياسة ليست حسابات بسيطة وإنما رياضيات معقدة، غير صحيحة على الإطلاق، فقد أكدت صحتها مجددا في الساحة اللبنانية، وهي ارض الاختبارات والتجارب السياسية بامتياز . ما تم خلال الأسبوعين الأخيرين من “انقلاب سياسي” أو بإمكاننا نعته “بالتمرد” على آذار رغم غياب الثكنة العسكرية، مفضلا زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، قلب الطاولة اللبنانية على اقرب حلفائه، مفضلا توقيت المؤتمر الحزبي وحساسية تشكيل الحكومة اللبنانية لمؤسستها السياسية التي عادة لا تطول ولا تدوم. ولو قيل لنا إن الثلج هبط على شوارع بيروت لقلنا إن هذا ممكن فمادامت المناورات السياسية والتكتيكات الغرائبية متوقعة، فان الانتقال من ضفة 14 آذار إلى ضفة 8 آذار أمر محتمل وان كانت تصريحات جنبلاط لاتزال ضبابية في مسألة أين سيكون موقعه في الحياة النيابية والتوازنات السياسية داخل البرلمان؟ هل سيضع مسافة بين القطبين أم انه واضح المعالم في بعض الأمور الاستراتيجية التي حددها مسبقا كقضية السياسة الخارجية وسلاح حزب الله والمقاومة والموقف من إسرائيل والولايات المتحدة. هذه الخطوط تؤكد في عمقها الاقتراب من دول الجوار وستكون اللعبة السياسية القادمة قائمة على فن مناورة “خذ وعط” المهم أن يقطع جنبلاط الطريق على كتلة 14 آذار التي حاولت تهميشه، بل ووجد نفسه في نهاية اللعبة يبتعد عن ماضي الايديولوجية التاريخية للحزب ولتراث والده، بل ولحياته الشخصية، إذ لا يمكن أن يتحول مصير اليسار اللبناني ذات يوم متراسا وحاميا لأثرياء لبنان الذين ادخلوا البلاد في حالة صراعات على المقاعد والثروة والمشاريع، فيما تعيش الغالبية العظمى من اللبنانيين في وضع مزر قياسا بواقعهم السابق المزدهر. ما كتم غيظ جنبلاط وتركه صامتا هو ذلك التقاسم على كعكة لبنان وفقدانها للاستقلالية الوطنية، وكأنما لبنان يدخل مرة أخرى صراعا داخليا بين خط الفقراء وخط الأغنياء، فيما تعيش إسرائيل حالة فرح دائم لما تشهده الساحة السياسية اللبنانية من نزاعات مزمنة. لم تتبدل الولايات المتحدة ولم تتبدل دول الجوار ولا حتى مواقف حزب الله من مسألة الجنوب وسلاح المقاومة، كما لم تتبدل السياسة الإسرائيلية قيد أنملة عن سياستها الخارجية إزاء السلام والحرب مع دول الطوق. كما ان جنبلاط لم يكتشف حفريات سياسية جديدة تنسف ميزان القوى فجأة كما نتوهم، وإنما استمرار سياسة الحزب المتذبذبة بين اليمين واليسار، الأصدقاء والأعداء، الفقراء والأغنياء، الطائفة وخطورة انقسامها وأهمية تماسك الطائفة لبنانيا لكي تتماسك في الجولان وفي خطوط المواجهة مع العدو الإسرائيلي. ربما كان الخوف على تاريخ الحزب وتاريخ الطائفة وتاريخ العلاقة الاستراتيجية مع سوريا وضد إسرائيل وحلفائها، هو الخط الفاصل الذي نسف كل الملفات القديمة والمماحكة السياسية التي عرفتها وسائل الإعلام، بل ومن سمعها بإذنيه وشاهدها على شاشات التلفاز لقال إن تلك الخصومة ستكون أبدية، بل وإنها مشروع اقتتال بالدم والاغتيال. اليوم يقفز جنبلاط بأكثر من 180 درجة بل ويتعدى كل الأرقام السياسية الاولمبية المتوقعة، وما سنشهده قريبا ليس تبدل معادلة الأرقام داخل الاصطفاف النيابي والسياسي وحسب، وإنما سيكون جنبلاط في اغلب الحالات “بيضة القبان” التي ستسعد زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي المسك بزمامها الداخلية، كتلة الرابع عشر من آذار ككيان غير منسجم إلا في لحظة تاريخية نشفت ينابيعها كما تنشف بقعة ماء في صحراء. هل تدخل لبنان في مرحلة ديمقراطية جديدة وتعلمنا دروسا في فن المناورة أم تعود ساحتها إلى مشاريع اغتيال دائمة؟ الفاعل فيها مجهول والتهم المتبادلة فيها تفوق كل الأرقام، ويضيع دم المقتول والضحية كما هو دم رفيق الحريري، الذي يمط في قضيته المجتمع الدولي إلى أن تتبخر كبخار الأسهم في الأزمات المالية العالمية. لن يمر صيف لبنان هادئا كما توقع المراقبون، فبعد “قنبلة” جنبلاط السياسية علينا الانتظار لما وراء أفق المحيط الهادي، فمن أصيب بانزعاج حقيقي هو البيت الأبيض، الذي كان يجهز حقائبه نحو دمشق وطهران، فيما خرج رجل من بين أشجار الأرز والجبل ليصوغ معادلة لبنانية ترفض دائما أن تكتب وثائقها وخطوطها وبنودها في الخارج. هل تنسف إسرائيل طاولة السلام الدائم بحجج مستمرة؟ أم يتم نسف الدستور اللبناني العتيق بعد أن تبدلت فيه الديموغرافيا وتطايرت أكثر من اللزوم مفردات حقوق الإنسان والديمقراطية، التي يلعب بأوراقها جنبلاط والتي لا نعرف أين نهايتها في “لبنان الجميل والأخضر!!”.
صحيفة الايام
18 اغسطس 2009