رغم ان حدث معهد التنمية السياسية يمثل خدشاً لعملية التغيير فإنه من جهة أخرى يصور كذلك أن الفساد مُلاحق، وأن زمن الاختباء وراء اللافتات الكبيرة من أجل المصالح الخاصة ليس له مكان من قبل القوى الغيور على المال العام.
وبداية ماذا يعني تشكيل معهد للتنمية السياسية؟
هل هو على طريقة الاتحاد الاشتراكي العربي الناصري ومدارسه الحزبية؟
هل يمكن للسلطة أن تشكل مدرسة فكرية لتصنيع الكوادر الحزبية والسياسية أم هو معهد للتدريب السياسي والندوات الفكرية؟ وهل هناك ما يمكن أن يشكل تدريبا سياسيا؟
لم تنجح أي مدرسة فكرية حكومية سياسية بدءاً من المدارس السياسية الغربية المنضوية تحت أجنحة الحكومات أو مدارس الحزب الشيوعي السوفيتي أو الاتحادات الاشتراكية العربية، لأن الحكومات ليس من شأنها التفكير السياسي التنظيري، فهذا تدعه للقوى المستقلة، وللمفكرين والباحثين.
هل تشكل الحكومات مدارس سياسية من أجل أن تخلق معارضين لها أم من أجل موالين؟
بطبيعة الحال سوف تعمل على تنمية كوادر ترى بعيونها، وتفكرُ برؤاها، وتشتغلُ بالسياسة من خلال مفرداتِها وطرائق عملها.
ولهذا فإن المهيمنين على النشاط سيتحولون إلى قوقعة وشلة تحجبان آراء وتنشران آراء، تقربان جماعة وتبعدان جماعة، فالعمل الفكري المسيس، يقود حتماً إلى تكوين جمود وسيطرة ونشر فكرة معينة وتكريسها، وعدم الترحيب بكل الآراء وعدم بلورة حالة حوار موضوعية عامة متغلغلة في البحث، ومن ثم سوف يدبُ الفساد بين هذه الجماعة التي ستغدو ذات مصالح مشتركة ذاتية.
وهذا يحدث في التنظيمات السياسية حتى غير الحكومية فهي تقوم بتكريس وجهة نظر وجماعة، ولهذا فإنه لا توجد مدرسة أو معهد أو حتى جامعة مستقلة عن صراع الأفكار وصراع السياسات، وبهذا فإن القيادات دائماً تكرس وجهة نظر معينة، لا تحاول أن تخرج عنها، وهذا ما يعقد التطور السياسي، وإذا حاولت أن تظهر بمظهر الحيادي فهو حيادٌ مجردٌ، وتوجيهٌ للقضايا الفكرية التي لا خلاف عليها في مسارات لا خلاف عليها، أو التي لا يُسمح بتجاوزها، وقراءاتها بأعماق مختلفة، تكشف شتى أشكال المستور.
الحكومة والفكرة نقيضان، فإما حكومة بلا فكرة وإما فكرة بلا حكومة، وحين تصير الفكرة حكومة يجب أن تلتزم بأعمالها التنفيذية وتبقي أفكارها الأيديولوجية بعيدة عن التنظير المفروض أو عن تجميد الفكر وعن إلزام الآخرين بمنظوراتها.
ومن هنا كان معهد التنمية السياسية يعيش في هذا العالم الفكري غير الأرضي، في المجردات الوطنية، أو المجردات العقلية الدينية والوطنية، فلا يكشف شيئا جذريا مما هو ملح فحصه وتحريكه لتطوير التجربة السياسية.
أي هو يقوم بما يحدث عربيا: الإشادة بما هو واقع، في حين تتطلع الشعوب لما يتجاوز الواقع.
فهو لا يستطيع أن يطور التجربة السياسية لأنه ملتزم بثوابتها الرسمية، وما هو ثابتٌ في ركائز يصعُب تحريكه وتغييره، إلا إذا كانت هذه الركائز هي الالتزام بالديمقراطية الحديثة من تعددية وعقلانية وعلمانية بشكل عام وبشكل سياسي ملموس.
ولم تصل تجربة المعهد والبلد إلى ذلك بعد، ودوره المفترض هو درس ذلك وفتح العقول لاكتشاف الطرائق القادمة.
وكان يُفترض في معهد كهذا يمتلك مثل هذه الإمكانيات المادية أن ينمي الثقافة السياسية عبر نشر دراسات وكتب بحث ومجلات حوار على الأقل في هذه التوقعات المستقبلية، ولكن القدرة المادية تسربت لمنحى آخر، بعد أن تقوقع المعهد في مهمته وتجمد في أفقه الفكري الغامض.
لكن الانجاز في الظاهرة رغم كل طموحها الخيالي ونزول ممارسة بعض أفرادها، هو في وجود عيون ساهرة حريصة ترفض تشويه الصورة ووأد فكرة التغيير التي يحلم بها المواطن، وأنه يجب في مثل هذا المكان الموقر، مكان الدرس والثقافة وتعليم الأجيال، ألا تحدث مثل هذه الظاهرات.
فمهما كان حجم الصدمة كان لابد من توضيح كل شيء وكشف الأخطاء، وهذا سوف يعزز الثقة بوجود مقاومة حقيقية للفساد.
لا يمكن لتجربة ديمقراطية أن تؤسس مدرسة سياسية، لأن المدرسة معناها التوجيه وخلق اتجاه وجماعة.
ولهذا فإن الوضع الفكري المسيس يبدو ملتبساً، مثل الأعمدة الحرة الموجهة أو التي هي بحاجة مستمرة إلى عمود آخر بديل فيما إذا رُفض الأول.
أو في غياب الجامعة ذات التفكير الحر، غير الموجهة التي توظف أساتذة متحرري الفكر، وذوي مناهج مستقلة يفجرون المعرفة لا أن يعلبوها.
ان التوجيه المفروض من أعلى، ومناخ الأدلجة، والخوف من النقد، كل هذه الأمور تنبثق من مخاوف لا مبرر لها، فالكتابات ليس هدفها التحطيم بل البناء، واكتشاف الثغرات والمشكلات وتطوير المجتمع، وليس التحريض على الهدم.
صحيفة اخبار الخليج
16 اغسطس 2009