محمد علي أبطحي كان ومازال حتى لحظة القبض عليه في الحملة التي جردتها الأجهزة الأمنية الإيرانية ضد المعارضة الإيرانية التي خرجت إلى الشارع لتحتج على نتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية على خلفية دعاوى التزوير واسع النطاق الذي أفضى إلى ترجيح كفة مرشح النظام محمود أحمدي نجاد على كفة مرشح المعارضة مير حسين موسوي - كان أحد الرجال المقربين من الرئيس السابق محمد خاتمي، بل كان نائباً للرئيس خاتمي إبان رئاسته.
وقد عُرف أبطحي، كوجه كثير الإطلالات والاستضافات في أجهزة الميديا العربية، بفصاحة لغته العربية وبخطابه السياسي المعتدل الذي يعكس وجهة نظر التيار الإصلاحي الذي يمثله والذي يتمحور حول شخصية الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي المعروف بسعة اطلاعه وثقافته التعددية المتجاوزة للتابوهات الأيديولوجية الدينية.
ومحمد علي أبطحي هو أحد الأبناء الشرعيين للنظام السياسي الذي أنتجته الثورة الإيرانية التي أطاحت بحكم الشاه في عام ,1979 وهو من الجيل الشاب المتحمس للثورة ولشعاراتها الذي تقلب في خضم تحولاتها واستقطاباتها الموضوعية التي حتمتها التحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للسنوات الـ30 من عمر الثورة. وكان هو من ضمن من اختاروا طريق إحداث ثورة في الثورة، ثورة إصلاحية تعيد بث الروح والحياة في النظام الإسلامي الذي أشادته وتحول دون سقوطه كحال الثورات العالمية حينما تتخشب وتتخندق خلف نرجسيتها المهلكة.
محمد علي أبطحي هذا فاجأ الشارع الإيراني وصدمه قبل أن يفاجئ تياره الإصلاحي وهو ماثل مع بعض المعتقلين داخل إحدى قاعات المحاكم وقد ارتدوا بيجامات النوم (يقال إنها لباس السجن)، بإدلائه باعترافات يدين فيها نفسه ويوجه الاتهام لقيادات حركة الإصلاح وتحديداً الرئيس السابق محمد خاتمي الذي اتهمه بأنه ضالع في مخطط مع الرئيس الأسبق هاشمي رافسنجاني والمرشح الخاسر مير حسين موسوي لتهميش الولي الفقيه مرشد الثورة آية الله علي خامنئي.. مستطرداً في القول: ‘أؤكد لكل أصدقائي ولكل الأصدقاء الذين يسمعوننا، إن موضوع التزوير في الانتخابات كان كذبة تم اختلاقها من أجل إثارة أعمال الشغب كي تصبح إيران مثل أفغانستان والعراق وتقاسي الأمرين، ولو حصل ذلك لتبخر اسم الثورة ولما بقي لها من أثر’. هل هذا معقول؟
لقد استغرق الأمر 43 يوماً بالتمام والكمال كي ينجح الحرس الثوري وكافة الأجهزة الأمنية والعسكرية التي استُنفرت لقمع حركة الاحتجاجات ضد تعويم أحمدي نجاد للمرة الثانية رئيساً للبلاد، في تقديم ‘الوجبة’ الأولى من المعتقلين وعلى رأسهم أحد الرموز البارزة في الحركة الإصلاحية وهو محمد علي أبطحي الذي تعمدت أجهزة الأمن والقضاء والإعلام التابعة للنظام تجليسه في الصف الأول ثم تصعيده المنصة لكي يدلي بالاعترافات التي تم الاتفاق معه في أقبية السجن لترديدها أمام التلفزيون الحكومي بهدف إحداث الصدمة والاضطراب والبلبلة في صفوف المعارضة، وذلك في ‘أبهى وأزهى صور التجلي’ لعقلية قيادات الأجهزة الأمنية في ‘العالم الثالث’. فلكم أن تتصوروا حجم البطش والتعذيب والابتزاز السياسي والأخلاقي الذي تعرض له المعتقلون وخصوصاً أبطحي لكي يدلي بهذه الأقوال الغريبة والمضحكة.
هو مشهد يعيد إلى الأذهان محاكمات ما تُسمى بـ ‘محاكم الثورة’ التي أنشئت بُعيد الثورة الإيرانية سنة 1979 من أجل ملاحقة وتصفية من يُسمَّوْن بأعداء الثورة ومبادئها وزعاماتها، والتي أصدرت ونفذت قبل ثلاثين عاماً أحكام الإعدام في المئات من كبار المسؤولين الإيرانيين زمن الشاه (حوالي 550 مسؤولاً) وذلك بأمر من ‘قاضي الثورة’ آنذاك صادق خلخالي الذي عرف بالقاضي الأحمر (كناية عن الدم) وذلك بتوجيه التهم الدارجة في مثل هذه الحالات الانقلابية ‘العالم ثالثية’ مثل ‘الخيانة العظمى’، و’العداء للثورة’، و’الإخلال بالأمن القومي’ و’العمالة للخارج’. إنها ذات المحاكم التي تحاكم اليوم أبناء الثورة أنفسهم الذين ارتأوا أنه لابد من إصلاحها كي لا يغدو تحنيطها مآلاً محتوماً مؤدياً نحو متحف المومياءات.
وهي تعيد إلى الأذهان أيضاً مهزلة محاكمة نورالدين كيانوري زعيم حزب توده الإيراني الذي اختطفته أجهزة المخابرات الإيرانية من بيته فجر إحدى ليالي شهر فبراير عام 1983 وسلطت عليه وعلى زوجته مريم وابنته أفسانه صنوفاً من التعذيب تواضعت أمامها تلك التي تعرض لها أيام سجنه في عهد الشاه على يد السافاك (جهاز الأمن إبان حكم الشاه). ويمكن لمن يريد الاستزادة الرجوع إلى موقع صحيفة الزمان العراقية والبحث باسم نور الدين كيانوري عن الخطاب الذي وجهه كيانوري في 5 فبراير 1989 إلى مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية آية الله علي خامنئي والذي أطلعه فيه على كل ما تعرض له هو وزوجته وابنته ورفاقه في أقبية السجن على أيدي الجلادين.
وكل ذلك من أجل أن يدلي كيانوري باعتراف أنه وحزبه خططوا لانقلاب ضد نظام الجمهورية الإسلامية وهو الذي كان حليفاً ونصيراً للثورة وزعمائها!
وعلى ذلك فإن تقديم السلطات الإيرانية محمد علي أبطحي بذلك الشكل البائس (فقد 25 كيلوغراماً من وزنه أثناء الـ43 يوماً من الاعتقال) شكلاً ومضموناً، لم يحقق الهدف السياسي والمعنوي والأخلاقي المبتغى. فهو لم ينل من عزيمة ولا من سمعة رموز التيار الإصلاحي المعارض، بقدر ما فتح الباب والأعين على الجوانب الأخلاقية للنظام نفسه بعد أن أماطت أحداث الأسابيع القليلة الماضية اللثام عن كثير من الأقنعة وفتحت الأبواب مشرعة أمام مآلات سياسية واجتماعية وثقافية ونفسية غير متوقعة، مازالت الساحة الإيرانية حبلى وتمور بها، ذلك أن الشرخ الكبير والعميق الذي أحدثته تداعيات الانتخابات الرئاسية ليس بالأمر اليسير جبره.
صحيفة الوطن
15 اغسطس 2009