فيما تشهد الحركات الشمولية العربية تدهورا مرئيا وغير مرئي، تستعيد الليبرالية بعض نشاطها، وهي تنمو في إرث محافظ متنوع.
غالباً ما تزدهر هذه الليبرالية على ضفاف الحكومات، على فيء القطاع العام، وبالتالي تعيش الليبرالية على التسطيح الفكري غالباً، فيوجد لها العدو البعبع سواء كان معارضة يسارية أو دينية، أو دولاً مناطقية محافظة.
بطبيعة الحال يغدو الدينيون كعدو المرحلة الرئيسي والخطر بالنسبة إلى الليبراليين، الذي في رأيهم تجب إزاحته لكي تنمو الحرية والفردية والوطن الذي يجب أن يخلو من الجمود.
لم تنمُ الليبرالية إلا برؤية احادية، فهي تنظر فقط في جهة واحدة، وإذا كان الدينيون يعوقون المشروع الفردي الحر لكونهم يريدون جماعة مسيطرا عليها في ماراشات عسكرية اجتماعية يومية، فإن ذلك لا يعني عدم قراءة فكرهم وجذوره التاريخية الطويلة وكيفية تفكيك أغلاله.
لا تظهر هنا حوارات بل سباب سياسي واجتماعي متفاوت المستوى، وفي أفضل الأحوال انتقادات سياسية. لكن حتى هنا لا تـُقبل الردود القادمة من الأطراف المنقودة باستمرار، إما لأنها تـُنتقد بشكل مجرد، وإما لعدم اهتمامها بالرد، فتقع القضايا غالباً بين الهجوم المستمر والتجاهل.
ويفترض في الليبرالية أن تفتح مساحات الحوار، وتجعل للردود والأجوبة سخونة تتوجه لبحث هذه المسائل المثارة. ولكن أول حقوق الليبرالية منتقصة. كان فولتير يقول “إنني مستعد لكي أدافع عن رأيك المغاير لي”.
في الأسبوع الماضي قرأت عينة من هذه المناوشات القلمية، حول تقدم إحدى الجماعات اليسارية بالاعداد لنفسها في مدينة المحرق عبر ندوات وكتابات صحفية وهي مع ذلك ذات جذور عريقة في المدينة.
أي أن مثل هذه الأمور طبيعية في تنظيم يفترض أن يقوم بعلاقات مستمرة مع شعبه.
اختيار هذه الجماعة تحالفاتها ليس نتاجاً فقط لاستقلالها في الصف اليساري، بل أيضاً لضعف الليبرالية والحريات في المجتمع، فالناس تسيطر عليهم المناخات المحافظة التي أُعطيت لها عقوداً طويلة لتشتغل في الميدان الاجتماعي، ومن دون دعم هذه القطاعات يصعب الحراك السياسي والوصول إلى البرلمان.
فيجد الليبراليون واليساريون أنفسهم بين كماشتين محافظتين، في وقت زمني انتخابي لا تتبلور فيه بسهولة وسرعة آراء الناخبين للتصويت العميق، فلا يتاح لهم ذلك، وعبر قيود شتى، إذًا يتوجه اليساري لاستثمار شعبية اتجاه ديني معين من أجل أن يكون له مكان في البرلمان.
وخلال هذه السنوات لم تقم قوى الليبرالية المفترضة بأي نشاط واسع بين الجمهور، وهو أمر لا تحققه الدعايات بل مواقف رجال الأعمال في دعم بعض الاتجاهات وتوسيع حضورها السياسي، فذلك يحتاج إلى دعم وهناك تخوف وبخل ومحدودية نظر بكل شكل.
فلانزال من حيث التاريخ الاجتماعي في أحضان الشموليات وهي التي تقرر طبيعة البرلمانات التي تظهر لا لتطور الحريات بل لتحددها وتقلصها، فهي تعمل على رفع معيشة الجمهور عبر اقتراحات ومشروعات لا عبر رؤى وقوانين لاجتثاث الفقر ومراقبة الشركات العامة وتغلغل رأس المال الأجنبي.
حين تتقلص الكماشتان سوف تتمكن القوى الليبرالية واليسارية من الوجود البسيط في المجالس المنتخبة.
أغلب الأفكار الداعية إلى الديمقراطية مصادرها هي الشمولية، أي من أجهزة الدول وثقافاتها السائدة خلال عقود.
ولهذا فإن الداعين إلى الليبرالية ينشأون مثل ما نشأ غيرهم، ورأسماليات القطاعات العامة التي احتكرت الإنشاء والإعلام تقوم بقولبة أي جدال سياسي في شعار وترفض التحليلات المعمقة، ويتركز في سؤال بسيط لماذا أنتم مع هذه الجهة؟ وهو سؤال مردود عليه فالقضية ليست تتركز في الوقوف في جهة بل محاولة التأثير في الانتخابات من خلال جماعة ذات حضور كبير، وبالتالي تجرى الاستفادة منها.
فيما قبل ذلك وأيام الوقوف ضد الانتخابات والبرلمان الراهن المحدود هي غيرها هنا مع دعم العملية السياسية السلمية، وتطويرها لكي تغدو ديمقراطية ووطنية.
ولهذا فإن قوى اليسار البحرينية أخذت تبتعد عن الوقوف الميكانيكي مع جهة ما ولا تنحصر في تحالف جامد، وأخذت تكون لها آراءها في مختلف جوانب الحياة، وتعترض على الجانبين الحكومي والقوى المذهبية السياسية اليمينية، معاً، فتجعل من الحداثة والوطنية والديمقراطية أهدافها، التي تقوم بتجذيرها في مختلف الجوانب.
إن أي قوة سياسية تنجذب نحو مثل هذه الأهداف وتتخلى عن النزعة الشمولية سوف تسهم بلا شك في عملية التحول هذه وتوسع صفوف العمل المشترك.
إن القوى اليمينية الحكومية والأهلية في حالة تداخل اجتماعية واقتصادية وعدم فرز، وداخل عملية التطور التي تلعب دورها بين الرأسماليتين الحكومية والخاصة، ومدى التحول فيهما، من العمالة والدخول وهياكل الاقتصاد المنوعة، ومدى استجاباتهما لحاجات الناس والتقدم، وهذه تنعكس على الأفكار والتنظيمات والمزاج الشعبي.
وتصويب الاقتصاد يلعب الحلقة الرئيسية هنا، فلابد من تصحيح وضع الاقتصاد ومقاربته لحاجات البلد، في الجدوى الاقتصادية والعمالة والتصنيع المتطور المختلف عن التصنيع الملوث الراهن، إلى آخر ما هنالك من مهام مركزية.
ان الظروف العامة سوف تجعل الكثير من القوى تلتقي وتتوحد في أعمال مشتركة، من تطوير الحريات ومن تنامي الانتماء إلى هذا البلد، ولهذا فإن التحليلات وعرض المطالب ونقد البرامج وكشف الواقع هي الجوانب الفكرية المهمة التي تجعل للحوارات فائدة وكشفا للنقاط المجهولة ولعدم اتخاذ المواقف الأحادية الجانب.
إن التنوير مهم لكن لا أن يأخذ طابع الهجوم على جماعة وتيار، بشكل دائم، فالأطراف الأخرى تستحق النقد أو الإضافة والاقتراحات.
صحيفة اخبار الخليج
15 اغسطس 2009