هل يكون المسعى المعلن عنه مؤخراً في بعض الصحف المحلية والرامي إلى تأسيــــس ما سمي “الائتلاف الأهلي لأصدقاء اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد” تحت مظلة إحدى الجمعيات، قادراً على إضفاء مزيد من الانتباه الذي يصب في اتجاه يدفع إلى فرض الجدية الكافية – التي نحتاجها من سائر الوجوه – وهذه المرة في التعاطي مع موضوع الاتفاقية المذكورة وما تقتضيه المصادقة عليها من التزامات وما تفرضه من آليات. نقول ذلك لأنه لا يسعنا حتى الآن أن نستوعب ما كان قد صرح به وزير العدل في اليوم التالي مباشرة من إعلان موافقة مجلس الوزراء على المضي في المصادقة على تلك الاتفاقية والتمهيد لذلك بإحالتها الى السلطة التشريعية ، وكأنما كان ينقص التأخير الحاصل في المصادقة على الاتفاقية بعد أن تم التوقيع عليها في فبراير 2005 أن ينبرى لنا وزير العدل ليخبرنا بأنه الاتفاقية لن يتم تأسيس هيئة عليا لمكافحة الفساد ..!! مهم جداً من غير شك أن نعلم بأن إنشاء مثل هذه الهيئة ما هو إلا أحد الالتزامات المترتبة على التصديق على هذه الاتفاقية بل هي تشكل مفصلاًِ مهماً في محاربة الفساد المالي والإداري وحتى السياسي ، إلى جانب الآليات الأخرى التي تفرضها هذه الاتفاقية ومن بينها ما يتصل بقواعد سلوك الموظفين العموميين، وقوانين تعارض المصالح ونظام الإفصاح عن الذمة المالية، وحماية الشهود والأشخاص المبلغين عن قضايا فساد وحق الحصول على المعلومات، ومشاركة المجتمع في الحرب على الفساد ، والحوكمة في القطاع الخاص ، والانتخابات النزيهة وتمويل الأحزاب أو الجمعيات وتكريس ثقافة ملاحقة ومساءلة كل من ينتهك القانون ، والمهم الجوهري لمن شاء أن يقتحم ميدان التشخيص أن يدرك جيداً بأنه ليس من المعقول ولا من السهل أن نأخذ من الاتفاقية ما نشاء ونلغي منها ما نشاء تحت أي ذريعة كانت ، وهو أمر نرى فيه ما يضحك قبل أن يكون فيه ما يغيظ ، خاصة وأننا في وقت نحتاج فيه أكثر من أي وقت مضى إلى ما يؤكد جديتنا في التعاطي مع ملف الفساد برمته . المشهد لا يقف عند ما صرح به وزير العدل، حيث تبدي للعيان بوضوح متزايد بأن هناك أطرافاً أخرى أثارت حول ذات الموضوع ما يبعث على الدهشة ، وهنا نقف تحديداً أمام ما صدمنا مرتين، الأولى حينما اعترضت جمعية مصنفة بأنها حقوقية على إنشاء هيئة عليا لمكافحة الفساد بذريعة ” الخشية من انتشار المطالب بهيئات ولجان عليا حول كل موضوع أو حدث للرقابة على أعمال وممارسات الحكومة وبما تكون معه وكأنها أعلى درجة من الوزارات وجهات الحكومة مما يضعف الجهاز التنفيذي ويشتت اختصاصه مما يعد أمراً غير ملائم في مملكة دستورية.. ” !! . أما الصدمة الثانية فهي عندما نطق أحد الذين استثمروا المناخات الراهنة ليبرز نفسه باعتباره ناشطاً سياسياً – وما أكثر النشطاء هذه الأيام الذين علينا أن نلحظ بأنهم باتوا يسرفون في الظهور والكلام لدواعي أحسب أنها معلومة للجميع ، نطق هذا ” الناشط ” نافياً جملة وتفصيلاً استشراء الفساد في البحرين معتبراً أنما يقال عن الفساد هو شائعة مغرضة يروج لها المعارضون وذو المآرب السياسية المشبوهة من أفراد وجمعيات لتشويه سمعة البحرين، وأن الإدارة في ذروة عطائها وأن المسئولين جميعاً يتسابقون على ما يعكس فضائل العفة والنزاهة والاستقامة ونظافة اليد . كل الآراء أقل ما يمكن أن يقال فيها أنها باعثة مع مؤشرات أخرى على الخشية من أن ذلك تنطوي على توجه يراد له أن يفرع الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد من مضمونها ، كما أن ذلك تثير شكوكاً حول مدى الجدية في رفع شعار محاربة الفساد وفي صدقية تحويل ذلك الشعار إلى معركة حقيقية وواقع ملموس بصورة دائمة وفي كل اتجاه . هذا بالنسبة للرأي الأول ، أما فيما يخص الرأي الثاني فهو بالإضافة إلى أنه يثير تساؤلاً مربكاً عن دور مؤسسات المجتمع المدني وكيفية تقوية قدراتها في محاربة الفساد وفي الهيئات الوطنية العليا لمكافحة الفساد كون الاتفاقية الدولية تؤكد على الدور المحوري لهذه المؤسسات في منع الفساد ومكافحته وفي إنشاء تلك الهيئات ، فإنه أيضاً يفرض تساؤلاً عن المانع الذي يحول من قيام أكثر من هيئة وجهاز أهلي ورسمي يعني بالتصدي لكل أوجه ومظاهر الفساد والإفساد وحتى لا يكون خلف الأكمة ما خلفها . أما بالنسبة للرأي الأخير ، فهو رأي سمعناه أكثر من مرة وأخطر ما فيه ليس تحاشى الاعتراف بوجود فساد بل الأخطر هو محاولة شرعنة الفساد أو اختراع المسوغات اللازمة لنموه واستمراره ليعيق التنمية ويضرب أخلاقيات العمل وقيم المجتمع ، وربما كان هذا ” الناشط ” وغيره أن يتذكروا على الدوام بأن ملف الفساد كان ولازال هو أول هموم المواطن وكان على الدولة بمعنى من المعاني أن تشيع دوماً روح الأمل بـأنها تشمل هذا الملف بعنايتها القصوى وأنها جادة حقاً بكل عزم وحسم في محاربة الفساد ومحاسبة الفاسدين مهما كانوا وفي أي موقع كان ، فهم يستحقون أعسر حساب ، وأي تقاعس عن أداء الواجب في الحساب المطلوب واللازم هو خطيئة ترتكب في حق المواطن وفي حق هذه البلاد.
صحيفة الايام
15 اغسطس 2009