قديماً وحديثاً قيل: ثلاثة أشياء لا يمكن أن تخفيها: ‘’الكحة.. الفقر والحب’’، فلنترك ‘’الحب’’ ونتغزل في ‘’الكحة والفقر’’، ثم ندندن مع السيدة فيروز: ‘’ليش بنتلفت خايفين؟!’’. فالفقر قال فيه الإمام علي (ع) لابنه محمد بن الحنفية: ‘’يا بُني إني أخاف عليك الفقر فاستعذ بالله منه، فإن الفقر منقصة للدين، مدهشة للعقل داعية للمقت’’..
أما الكحة، أو السعال ذكر فيه/ فيها، الكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي في مطلع رائعته ‘’مُذَلّون مُهانون’’ شيئاً غريباً مرتبطاً بالفقر وتوابعه أيضاً بقوله: ‘’كنت قد قضيت النهار كله متجولاً في المدينة أبحث عن شقة أستأجرها. فقد كانت شقتي القديمة رطبة جداً، وقد كنت في ذلك الوقت قد بدأت أسعل سعالاً شديداً. كنت منذ الخريف أود أن أترك هذه الشقة، إلا أنني سوفت حتى الربيع. انقضى النهار دون أن أجد ما يرضيني. فقد كنت أريد أولاً أن تكون الشقة ليس من الباطن؛ بل من صاحب البيت، وثانياً كان يمكن أن أكتفي بغرفة، ولكن لابد أن تكون الغرفة واسعة (وكان لابد طبعاً أن يكون أجرها زهيداً)، فقد لاحظت أن الغرفة الصغيرة تضيق الخناق على الأفكار نفسها، وكنت أحب دائماً، حين أفكر فيما سأكتب من قصص، أن أسير جيئة وذهاباً’’. (ص11).
****
في كل البلدان فوارق طبقية واجتماعية: هناك فقر عند الغالبية وغنى للأقلية، إيمان وإلحاد، وما إلى ذلك من ‘’مجمع النقيضين’’، غير أنهم كلهم تفضحهم ‘’كحتهم وفقرهم’’، لكن المصيبة الأعظم، كلهم يدّعون ‘’الغنى والصحة والعافية’’، إلا ما نذر تجده فقط في كتب الفلاسفة وأصحاب الفكر الحر، يعني على الورق.. فالأنظمة باتجاهاتها المختلفة، جلها متشابهة لمسمى واحد، وتملك وجهين لمعطى واحد، ويجمعهم ادعاء واحد أيضاً، وهو فرط المبالغة في بلوغ ‘’العدالة الاجتماعية’’، أو التوجه صوبها، وفي الحقيقة لا توجد على الخريطة في الواقع حتى ‘’قرية صغيرة’’ مثالية، ولكن لماذا عندما توجه رؤية مختلفة لسياسات دولة في مسألتي ‘’الكحة والفقر’’، تقوم القائمة ولا تقعد، ويخرج علينا من يقول إنه لم يسمع ‘’سعلة واحدة’’، ولم ير فقيراً واحدا في هذا البلد الذي ينتمي إليه عقائدياً؟
أسارع وأبدأ بأصحابي اليساريين، وأنا من بينهم، حيث كنا من فرط ‘’غشاوة’’ حبنا للمنظومة الاشتراكية ‘’وفي طليعتها الاتحاد السوفيتي’’، لم نر فيها باطلاً، لا من فوقها ولا من تحتها، ولا من يلف لفها.. لا فقر، لا أمراض اجتماعية، لا قمع سياسي أو وحشية سياسية، وطبعاً ولا ‘’كحة’’، ولا أحد منا يسأل لماذا يبنون هناك مستشفيات، مادام هناك لا يوجد مرضى، أو لماذا يبنون سجونا، أو لماذا يعتقلون الناس ما دام هناك لا يوجد مختلفون ومعارضون؟؟!
ربما، من فرط إيماننا بالاشتراكية كمنقذ للبشرية جمعاء، اعتبرنا القيادات في أحزابها الحاكمة رسلنا الذين لا يخطئون، حتى قبل أن يقتل الاشتراكية أكثر من سبب!!.
الشيء ذاته يتكرر الآن، أو مثيله عند الإسلامويين السياسيين، وأبرز نموذج على ذلك ما يحدث في جمهورية إيران الإسلامية من قصص وروايات مروعة بعد فضيحة سجن ‘’كهريزك’’ الذي أمر المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي بإغلاقه، لأنه لا يتفق والمعايير الإنسانية و’’الأخلاقية’’، وهنا تسجل للمرشد الأعلى دون سواه بادرته بإغلاقه، لكنه إلى الآن لم يغلق ملفه الأسود الذي تتفاعل تداعياته في إيران وخارج إيران، بين نفي وتأكيد، لما روته ‘’أسرة ترانه موسوي، الفتاة التي اعتقلت خلال التظاهرات وتسلمت والدتها جثتها المشوهة بعد أسبوعين وتبيّن وفق نشرة ‘’الموجز’’ الشهرية، المتخصصة في الشؤون الإيرانية: ‘’أنها تعرضت لاغتصاب وحشي عدة مرات’’، وكذلك تصريحات السيدة بروين أعرابي، والدة سهراب أعرابي البالغ من العمر 19 عاماً الذي قتل في السجن أيضاً.
مشكلة المشاكل، أن ‘’العقائديين’’ المصدومين لهذه القصص المروعة، لا يصدقون أن ذلك يحدث في إيران الذي أثار رئيسها محمود أحمدي نجاد زوبعة بتصريحاته في 5 ـ 5 ـ ,2008 في خطاب أمام طلاب الفقه نقله تلفزيون الدولة، عن إدارة ‘’المهدي المنتظر’’ لشؤون إيران، وقال إن ‘’القوى العظمى مذهولة. هل تصدقون أن تصبح إيران قوة نووية هكذا؟ نحن نرى في ذلك اليد المدبرة للإمام الغائب’’.
صحيفة الوقت
14 اغسطس 2009