لعب السريان دورا فائق الأهمية في تمهيد الطريق للعرب للاغتراف من منهل الحضارة اليونانية قبيل بزوغ فجر الحضارة العربية – الاسلامية، وعلى وجه الخصوص من خلال ما قاموا به من اعمال ترجمة من العلوم اليونانية الى اللغة السريانية، فكانت هذه التراجم هي المصدر الأول الذي عول عليه العرب للاستفادة من مصادر الثقافة والعلم اليونانيين.
كانت الثقافة اليونانية من خلال هذه الاعمال المترجمة الى السريانية منتشرة في وادي الرافدين والشام والاسكندرية، وكان للسريان فضل لا مراء فيه في نقل التراث الفلسفي والعلمي الى لغتهم كما تجلى ذلك في مراكز اشعاعاتها مثل حران والرها ونصيبين وانطاكية وقيصرية الا ان اللغة العربية تفوقت على السريانية بعد الفتوحات الاسلامية واضحت هي لغة العلم والثقافة في الشرقين الادنى والاوسط وذلك بدءا من العصر الاموي، وان كان العصر العباسي هو العصر الذي جرى خلاله ارساء نهج كبير ومنظم لأعمال الترجمة من علوم مهمة كالطب والكيمياء والفلك والرياضيات ناهيك عن الفلسفة والمنطق.
ويعد “بيت الحكمة” الذي تأسس في عهد المأمون مجمعا علميا حقيقيا للدراسات والابحاث العلمية والترجمة، وبفضل هذه المؤسسة العلمية جرى أول مرة ترجمة اعمال الفلسفة اليونانية الى العربية مباشرة دونما الحاجة الى نقلها من اللغة السريانية وبفضل هذه الترجمة المباشرة تمكن العرب من ان يلمسوا اخطاء وثغرات الاغريق ويضيفوا من خبراتهم وتجاربهم الكثير من المعارف أو الملاحظات والآراء القيمة وبخاصة في مجالات الطب والفلك والكيمياء والرياضيات، وهذه المأثرة العلمية الحضارية التي اجترحها العرب هي أكبر رد على التخرصات التي ذهبت الى ان العرب كانوا مجرد ناقلين للعلوم والفلسفة اليونانية لا مبدعين أو مجددين حتى ان الباحث الغربي براون اقر بفضل العرب في هذا المضمار قائلا: “ان العرب كانوا أكثر دقة لدى نقلهم التراث اليوناني الى لغتهم من الاوروبيين الذين نقلوا هذا التراث بعدئذ من العربية الى اللاتينية”، وقد اعتبر العديد من الباحثين أن العرب بقصد أو من دون قصد اسدوا خدمة جليلة لتراث الانسانية العالمي بترجمة العلوم والثقافة اليونانية فلولاهم لضاع الكثير من اعمال الفلاسفة والعلماء اليونانيين الكبار مثل ارسطو وجالينوس وبطليموس وغيرهم. ويتميز الفكر العربي – الاسلامي في عصر ازدهار الحضارة العربية الاسلامية عن الفكر اليوناني بأن الاخير يقوم على التأمل الفلسفي والمعرفي ويستعين بمنهج القياس الارسطوطاليسي، في حين ان الاول يتبنى المنهج التجريبي وينتقد قصور المنهج الارسطوطاليسي.
وساق الباحث العراقي فيصل السامر واحدا وعشرين دليلا ونموذجا انسانيا رياديا للدلالة على مكانة العقل عند العرب وعلى اخذهم بالمنهج التجريبي للوصول الى الحقائق، نكتفي هنا بعرض ستة منها:
النموذج الأول: يمثله الفيلسوف العربي الكندي الذي رفض الانشغال بالكيمياء فقط من أجل تحويل المعادن الخسيسة الى ذهب، واعتبر ذلك مضيعة للوقت، كما رفض ربط مصائر الناس بالنجوم.
النموذج الثاني: يمثله الرازي الذي علا من شأن العقل واعتبره اعظم النعم وبه يسخّر الانسان الطبيعة لمنافعه، ومنهجه يُعد من أكثر المناهج اقترابا من المناهج العلمية الحديثة، وهو الى ذلك يُعد مؤسس الفكر الحر وصاحب منهج نقدي صارم يتوخى تلمس الحقيقة أيا يكن مصدرها. وهو الذي حطم العقل المتحجر الذي يمثله اللاهوت التقليدي وقد تأثر بمنهجه واسهاماته كل من سبينوزا وهيجل ودانتي وترجمت اعماله الى العبرانية واللاتينية.
النموذج الثالث: يمثله العالم والفيلسوف العربي المعروف ابن سينا الذي افرد للتجربة مكانا عظيما في ابحاثه وتوصل عن طريقها الى ملاحظات دقيقة وتمسك بسلطان العقل في تفنيد التعليل الخرافي للخوارق.
النموذج الرابع: يمثله البيروني العالم الذي عُرف بنزاهته للحقيقة وروحه العلمية ودقة ملاحظته فهو يشاهد وينقد ولا يأخذ الا بما يتفق والعقل.
النموذج الخامس: يمثله الحسن بن الهيثم الذي وضع اصول المنهج التجريبي واستقراء الجزئيات والوصول الى الحقائق وصوغ القوانين العامة بناء على مزاولته التجربة في دراسته علم الضوء.
النموذج السادس: يمثله ابن خلدون المعروف بسعة افقه وشمول فلسفته الاجتماعية ومنهجه العلمي الفذ في تفسير الظواهر الاجتماعية ودراسة التاريخ الرائد للنظريات الحديثة في تفسير التاريخ وعلم الاجتماع.
****
انظر: د. فيصل السامر، العرب والحضارة الاوروبية، الموسوعة الصغيرة، منشورات وزارة الاعلام، الجمهورية العراقية، بغداد، آب 1977م.
صحيفة اخبار الخليج
14 اغسطس 2009