عندما أفردت الجزء الأول من مقال الأربعاء الماضي لتقريع موظفي قسم المخالفات بالمرور لأنهم أعطوا أنفسهم الحق بتعليق ملصق يمنع إنهاء معاملات كل من تلبس تنورة قصيرة؛ وعرضت – باستهجان- موقفهم من سيدة أربعينية فاضلة تعرضت على أيديهم للازدراء والإهانة العلنية لمجرد أنها رفضت الخنوع لقرارهم وتمسكت بحقها في إنهاء معاملاتها كمواطنة.. توقعت بل تأملت أن أجد ردة فعل ترفض هذا التعسف والقمع الذي لا يشبه البحرين ولا أهلها؛ ولم أتوقع أن تقوم قيامة – لا مسؤولي المرور- بل عامة الناس الذين اعتبروا دفاعي عنها كبوة غير مقبولة!!
94 تعليقاً في موقع الوقت الإلكتروني بما مجموعه 13 ألف كلمة ونيف و47 رسالة إلكترونية وبضع فاكسات تأرجح موقف أصحابها بين حانق ومصفق.. عدد كبير ممن ساءهم الموقف امتعضوا -لا لقناعتهم بحق السيدة في لبس ما تشاء- بل لأنهم وجدوا في إقدام الموظفين على سنّ قوانينهم الخاصة نذير شؤم.. فاليوم وقد تجرأ هؤلاء على ذل قد يأتي قريباً اليوم الذي يرفض فيه موظف أداء معاملات سيدة لأنها بلا محرم.. أو يأتي اليوم الذي يرفض موظف إنهاء معاملات حليقي اللحية..!!
فمن يعطي نفسه الحق بأن يكون اليد التي تطبق ‘شرع الله في الأرض’ قد يبدأ بنبذ غير المحجبات؛ ليصل لمضايقة ‘غير الملتزمين شرعيا’ مروراً بمهاجمة السينمات ومحلات الكاسيت ثم سحق أهل البدع؛ وليست تلك بأساطير نخوف بها الناس بل هو واقع ذاقته واختبرته مجتمعات عدة ضربها وباء التطرف وأعمى بصيرتها وأفقدها رشدها.
لقد شُدهت بأن البعض اعترض على وصفي للسيدة بأنها فاضلة ‘كيف تكون فاضلة وهي تلبس القصير الله يهداج’ قال بعضهم .. كما واعتبر بعض آخر ما قلت حرباً على الحجاب والإسلام ‘ياللهول’. وكثيرون، كالعادة، وجدوا للأمر مدخلاً طائفياً ولم يرق لهم أن أنسب هذا السلوك للمجاهدين في طالبان!! وعتبوا على محدثتكم لأنها لم تنسب هذا السلوك للحرس الثوري وملالي إيران ‘ياللهول مجددا’.. وقد اعتبر هؤلاء استشهادي بطالبان طائفية مني..!!
والحق أني أردد دوماً ‘كن طائفيا ترَ الكون طائفيا’، مع الاعتذار للشاعر عن تحوير أبياته، فعندما وصفت هذا السلوك بالطالباني؛ فإنما فعلت لأن تلك الحركة هي الآن أكثر الحركات قمعاً للنساء على وجه الأرض.. فما من جماعة في هذا العصر – على حدّ علمي- تخضع النساء لفحوصات عشوائية إجبارية ‘للتأكد من عفتهن وعذريتهن’!! ولا توجد حركة تمنع التعليم الأساسي للفتيات سواهم.. ولا توجد حركة تجبر النساء على لبس البرقع وتعاقب على تركه بالسوط والرجم والقتل سوى طالبان.. ولو كنا رأينا نموذجا أكثر تطرفاً لسقناه، ولكن حتى في الدول الإسلامية كالمملكة السعودية غرباً والجمهورية الإيرانية شرقاً، يقيد حق النساء في اختيار الحجاب نعم ولكن المرأة لا تجبر على النقاب ولا تحرم من حقها الإنساني في التعليم وغيره.. ونحن وإن كنا ننظر لهذه الملابسات فننظر لها من مفهوم إنساني وإسلامي مجرد لا علاقة له بالمذهب كما يذهب الخرَّاصون..!!
يا جماعة، يا أهل البحرين الطيبين الذين لطالما حسدكم الناس على رجاحة العقل واعتدال الفكر، إننا لا ندافع عن تنورة ولا نهاجم لحية، بل ندافع هنا عن حق ونذود عن مبدأ.. حق الإنسان أن يُحترم – بالمطلق- إن لم تتعدَّ حريته حرية الآخرين.. ومبدأ أن الدعوة تكون بالحكمة والموعظة الحسنة لا بالجبر ولا بالعضلات التي ولى زمنها.. لقد وضع الشرع المقدس ضوابط عامةً للعبادات والملبس ولم يعط أحد صلاحية فرضها على الناس.. فالمجتمع الإسلامي الحقيقي مجتمع متسامح متعايش مع نفسه، وما تعايش الرعيل الأول من المسلمين مع أهل الكتاب والملحدين في بقعة واحدة إلا بسبب مبادئ احترام معتقدات الآخرين التي بها انتزعوا الاحترام لهذا الدين العظيم.. ديننا الذي يكره الغلظة والفظاظة التي تفض الناس عن التدين والدين.. ذلك الدين الذي طلعنا منه الآن ‘بنسخة جديدة’؛ مكتوبة بالدم والكراهية والعنف والتطرف؛ لا تشبه ديننا ولا تشبه عصرنا.
صحيفة الوقت
10 اغسطس 2009