ذكرنا قبل ذلك في مقالات سابقة أن الاقتصاد العالمي بعد سبعة شهور من المعاناة يرتد نحو التعافي متجسداً في عدد من الإشارات الأولية بل ومؤشرات الأداء الجيدة لبعض وحداته، في آسيا خصوصاً، وذلك بعد أعتا ‘تسونامي’ يتعرض له هذا الاقتصاد منذ أزمة الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي. فالاقتصادات الآسيوية تؤدي أداء حسناً بل ومدهشاً في بعض الحالات كما في الصين التي سجل إجمالي ناتجها نمواً بلغ حوالي 16٪ خلال الفترة من أبريل إلى شهر يونيه المنصرم. حتى في أمريكا وأوروبا توقف مسلسل تراجع نمو إجمالي الناتج المحلي خلال الصيف، لذا لن يكون مستغرباً إذا ما عاد الاقتصاد العالمي خلال الشهور المقبلة إلى النمو. طبعاً هذه أنباء جيدة للجميع تجعلهم يتنفسون الصعداء بعد أن عاشوا أوقاتاً عصيبة طوال الشهور السبعة الماضية. ولكن هل هذا التحسن مؤسس بما يكفي لضمان استقامة السير الصعودي للدورة؟ الثابت أن الجزء الأكبر من مصدر هذا النمو ‘الاصطناعي’ - إن جاز التعبير - هو برامج التحفيز الاقتصادي الحكومية المتمثلة في قيام الحكومات بضخ أموال هائلة في أقنية الاقتصاد المختلفة لإنعاش الطلب، وهو مصدر لا يتسم بالديمومة أو الاستدامة، فهي لا تعدو أن تكون مخصصات مالية حكومية مقطوعة لبرامج إنهاض محددة لابد وأن يتم سدادها أو إعادتها إلى حالتها ووظيفتها السابقة المنشئة للتوازن المالي والنقدي الذي كانت تشكله. ففي الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال تم ‘الغرف’ من الميزانية لدرجة زيادة العجز في الموازنة بنسبة 12٪ لتوفير الدعم اللازم للطلب الكلي المنحدر. وفي الصين فإن 75٪ من نمو إجماليها هذا العام تحقق بفضل الدعم المالي الحكومي سواء من خلال الإنفاق العام أو الإقراض الرسمي (الحكومي) للمتعثرين. فالحكومات تستطيع إنعاش اقتصاداتها بصورة مؤقتة، ذلك لأن التمويل العجزي لهذا الانتعاش ليس هو السبيل نحو النمو المستدام، حيث إن تراكم الدين التدريجي سوف يضيق فسحة المناورة أمام أدوات السياسة المالية (المستخدمة هنا للتصحيح الاقتصادي - الإنعاشي). ناهيك عن وجود إمكانية لقيام المستوى السياسي أو التشريعي بإعاقة استمرار برامج الإنهاض الاقتصادي تحت ضغط تزايد عجز الموازنة. وبما أن الانتعاش الجيد هو ذلك الذي يُؤمنه الطلب الخاص، وبما أن هذا الطلب يعاني حالياً من آثار الأزمة، فإن الراجح أن يؤدي الاضطراب الفادح الذي أصاب آلية موازين الحسابات الجارية للدول القائدة للمبادلات التجارية العالمية، إلى تبدل ملامح موازين القوى التي شكلتها تلك الآلية، اعتباراً بتراجع الإنفاق الخاص في أمريكا في ضوء تراكم المديونيات العامة والخاصة، حيث ظل الطلب الأمريكي معتمداً على إنفاق الفرد الأمريكي ومديونيته التي فاقمت عجز الحساب الجاري وأوصلته إلى 6٪ من إجمالي الناتج المحلي في عام ,2006 فضلاً عن الخسائر التي تعرض لها المواطنون الأمريكيون جراء الأزمة والتي قُدرت بحوالي 13 تريليون دولار. ومع تراجع الاستهلاك الأمريكي فإن حدة اللاتوازن الاقتصادي العالمي التي طبعت الاقتصاد العالمي في السنوات الأربع التي سبقت اندلاع الأزمة، سوف تتراجع مدعومة أيضاً بتراجع فوائض الحسابات الجارية لكل من الصين واليابان وألمانيا. ولذلك تذهب وجهة النظر الأمريكية إلى أن الأزمة الاقتصادية العالمية الأخيرة قد تسببت في التخفيف من حالة اللاتوازن الاقتصادي العالمي (القصد أن الولايات المتحدة بفضل استهلاكها الخاص راكمت عجوزات في ميزان حسابها الجاري فيما راكمت دول أخرى مثل الصين وألمانيا وغيرهما فوائض ضخمة بفضل استهلاكها الخاص غير المندفع). وهذا حل غير فعال إذ من غير الصائب معالجة اللاتوازن الاقتصادي بين الدول بواسطة الركود، وإنما معالجته داخلياً عن طريق تحفيز الطلب الخاص المحلي بينما يتعين على الولايات المتحدة مواصلة التحول نحو التوفير والتصدير. قد تكون الصين بعد الأزمة قررت عدم الانغماس المتحمس والتام في اتجاه التصدير وإعارة اهتمام أكبر للاستهلاك المحلي، إلا أن الأسواق الدولية وحيازة حصص فيها هو بمثابة ‘مجالات حيوية’ لعجلة الإنتاج في الاقتصادات الوطنية يصعب إخلاء جزء منها. فالسياسة التصديرية هي بمثابة شيء غير قابل للنقاش بالنسبة للألمان وكذا الحال بالنسبة لعديد الدول في آسيا كما في أوروبا.
صحيفة الوطن
10 اغسطس 2009