تجاوزت الديمقراطيات العريقة عبارتين لا تطلقهما على المنافسين سواء قبل النتائج أو بعدها، وهي عبارة «النتائج مفبركة» لاقتناع الناخب والمؤسسات العريقة للشفافية والرقابة والحريات بمجملها ، بأنها تخطت كل تلك الترهات ، بل وباتت التقنية وعملية الفرز في مواقع التصويت، عالم من الثقة بين جميع الأطراف المتنافسة على مقاعد المجلس النيابي أو على مقعد رئاسة الجمهورية ’ والأكثر من ذلك اختفت من رزنامتهم إحدى العلامات الدامغة للعالم الثالث وهو المؤسسة العسكرية . كما ان مفردة «الفساد والمفسدين» لا تثير فيه إلا شهية الضحك الشكسبيري فمنها تتحول القصص الانتخابية إلى دعابة إعلامية ، فتلك الكلمة ترد هكذا عابرة ، إذ لم تعد مثيرة للناخب في مجتمعات غربية ولا هي مثيرة تلك الفضائح الجنسية للأشخاص ، بقدر ما يهتم الناخب ببرامج تهم حياته المعيشية وضمانات مستقبله في مجالات شتى ، أكثر من الحديث عن المرشح لمناقبه التاريخية وسيرة حياته الخفية والمعلنة ، فهناك لا يمكن لأي مرشح التلاعب بأسرار حياته المالية والسياسية والشخصية، ومتى ما تم التزييف في تلك الذمة ، فانه معرض للمساءلة والمحاكمة بل وإسقاط كل ما تم منحه من ثقة ومصداقية وولاء انتخابي . في محيطنا الانتخابي نسمع اسطوانة واحدة أغنياتها ومطلعها واحد ، وملحنها ومغنيها واحد ، وضحيتها في النهاية شخص واحد هو الشعب، الذي صارت تعجبه مفردة «محاربة الفساد والمفسدين» بل وتم إضافة مفردة جديدة تعكس واقعا حقيقيا للبؤس ألا وهو الفقر ، الذي تحاربه الإنسانية منذ أن عرفت وجودها على هذه البسيطة . لهذا يستطرب لسماعها البؤساء فهي تدغدغ أحلامهم وأمانيهم ، فالجميع صار واقفا عند الباب مادا «طاسته / ماعونه» وكأننا فقراء شهر رمضان الواقفين عند بوابة المساجد نستجدي الله والأغنياء . هؤلاء الفقراء يتزايدون بل ويتعدون خط الفقر كل عام وفق إحصائيات منظمات الأمم المتحدة ، المعنية بمطاردة فقراء العالم أينما كانوا ، ولكن دون حل ، غير ان المرشحين لدينا، نوابا وزعماء ورؤساء ، وجدوا في سحرية هذه الكلمة فتنة وإثارة للجياع والمحبطين ، خاصة إذا ما أضفنا لهم كملحق إضافي عبارة المفسدين ، باعتبار ان من يسرقون قوت هؤلاء الفقراء هم المفسدون وحدهم !! وبتلك القفزة السريعة لمقعد الرئاسة يتم بين ليلة وضحاها وبعصا سحرية الانتقال من جحيم الفقر والبؤس إلى فردوس النعيم. وما على الحكومة إلا مسألتين أهمها تقوية الجيش ومؤسساته، والأمر الثاني ملاحقة الإرهاب والفساد، ولكي يتم ملاحقة الثاني فان تقوية الأول يصبح أمرا هاما ، دون الإفصاح عن ان تلك المؤسسة هي بيت الداء والفساد والامتيازات في البلدان المتخلفة ، بدلا من طرحها كرقيب حريص على المؤسسات الديمقراطية ، إذ تتحول مع المؤسسات الأمنية الرديفة لها سيف مسلط على الأعناق . ومع كل الألوان القاتمة في مناخ موريتانيا السياسي، فان المعارضة ليس بإمكانها بمجرد خسارتها بعد قبولها بصيغة الانتخابات التي تم تسييرها بحضور 320 مراقبا من مؤسسات دولية وقارية وإقليمية ، وبإجراءات وافقت عليها الأطراف جميعها تعود لنسفها محتجة متنصلة عن موافقتها خوض الانتخابات بتلك الشروط ، ثم تزعق كعادتها في الخسارة «إن الانتخابات مفبركة !!» دون أن تقف أمام جمهورها بشجاعة معلنة : «نعم إننا خسرنا معركة الرئاسة» وعلينا أن نواصل معركة الديمقراطية والتنمية من اجل الشعب الموريتاني . ولنرى ماذا يفعل الرئيس وبرنامجه ووعوده . فمثل وعود الرئيس كانت المعارضة ترددها أيضا ، وحال تحسسها لمقعد السلطة تصاب بالتخمة والارتخاء البيروقراطي. لماذا تعتبر المعارضة أن برنامجها يبدأ فقط بوصولها للسلطة رغم إن هناك انتصار كبير لها هو التأكيد على إن المؤسسة العسكرية لا بد وان يتم تقليم أظافرها وان الديمقراطية شجرة المستقبل الموريتاني وأجياله. وهذه هي الورقة الكبرى من قيمة الانتخابات . ما حصل عليه كل المرشحين التسعة لم يصل نسبة الرئيس المنتصر ، بل والأربعة الأوائل لم يصلوا إلا ثلثي الأصوات من نسبة ما حصل عليه ، الرئيس القادم لموريتانيا «الحالمة» في صحراء العالم المنسي. دعونا نتابع ما يفعله «أبو الفقراء» لكي نتعلم بعد النجاح في كيفية محاربة الفقر، وبان الفقر بات هناك أبا له قادرا على إطعامه واكتسائه وتربيته ومنحه بيتا وتعليما وكل ما يحلم به فقراء العالم من انتصارات. ما نتمناه للشعب الموريتاني هو الازدهار والسلم الاجتماعي والأهلي والتنمية المستدامة وترسخ الديمقراطية الوليدة واختفاء عيون الأمن وبزة العسكر من حياتهم السياسية ، لكي يصبح بالأمن والتضامن الاجتماعي محاربة الإرهاب الداخلي مسألة ممكنة ، فليس بالشعارات الانتخابية يتم إزالة اليافطات الخفية في المجتمع ! وترميم بيوت الصفيح في خلفية المدينة المتشحة بتناقضات الألوان الإنسانية.
صحيفة الايام
9 اغسطس 2009