المنشور

لاءات ثلاث.. !!

لا أعرف هل نستطيع أن نخرج من الجدل الدائر حول قضية معهد التنمية السياسية بكل ما بدا فيها من شطط وتجاوزات وتطورات ومفاجآت ، وحول تصريحات المحامي العام أو النائب العام بالإنابة التي هدد وتوعد فيها الصحافة أن استمرت في نشر الوقائع والمعلومات والأخبار ذات الصلة بهذه القضية، وهي التصريحات التي كان من الطبيعي أن تثير خاصة لدى من يتمتعون بموهبة التقاط الإشارات قدراً لا يستهان به من التساؤلات حول حرية الصحافة التي هي مفتاح الإصلاح وحجر الأساس فيه، خاصة باعتبارها وسيلة للرقابة الشعبية على مؤسسات المجتمع من خلال الرأي والنقد ونشر الأخبار والمعلومات وهو حق كفله الدستور . نعود ونسأل .. هل نستطيع أن نخرج من هذا الجدل بالاتفاق على لاءات ثلاث ، ” لا ” للمساس بحرية الصحافة وتقزيم دورها الوطني وحقها في الكشف عن مكامن الخلل والانحراف ووقائع الفساد وملاحقته والتصدي له حيثما وجد، ” ولا ” للتعدي على حق وسلطة وصلاحيات النيابة العامة والنظام القضائي برمته في التحقيق والنظر في الأدلة والمستندات التي لا تخص فقط مسار قضية المعهد المذكور بل وفي أي قضية أخرى، ” ولا ” للتراخي في قضايا الفساد والتجاوزات أياً كانت وفي أي موقع كان ولا لجعل الحسابات والاعتبارات أياً كانت ومن أي مستوى كان هي الفيصل في مصير الضالعين في الفساد . اذا بدا ذلك الاتفاق ممكناً ، ونحن على يقين بأن ذلك ممكناً اذا أريد لهذا الممكن أن يتحقق ، فإن أول ما ينبغي التأكيد والتشديد عليه بأنه لا يمكن القبول بأي مساومة أو تنازل عن حرية الصحافة وتقييدها وجعلها صحافة منكفئة على نفسها، منشغلة بتوافه الأمور، وبمثابة الحاضر الغائب الذي يرى ولا يتكلم ، ويسمع ولا ينطق ، وتتحرك أمام ناظريه مواكب فساد هنا أو هناك فلا يحرك ساكناً ، بل نريد صحافة تكون حقاً سلطة رابعة ولها دور وعيون مفتوحة على اتساعها تراقب وتثير وتناقش القضايا العامة وتكشف عن كل ما هو مشين، صحافة تكون حريتها العمود الأساس لأعمدة المجتمع، وداعمة للمشروع الإصلاحي للملك حفظه الله ، وبقدر صلابة الصحافة وحريتها تترسخ وتنتعش باقي الحريات . من تلك الزاوية ليس من الحصافة ولا من الحكمة ولا من المصلحة أن يهدد أو يمس أي كان في أي موقع كان حرية الصحافة ورسالتها ويمنعها من إحاطة الرأي العام بالبيانات والمعلومات والحقائق حول أي قضية كانت خاصة اذا كانت هذه القضية هي قضية رأي عام يفترض أن يعامل فيها الرأي العام بما يستحقه من احترام . هذا بالنسبة لــ ” لا ” الأولى .. أما فيما يتصل بالثانية ، أي بحق وصلاحيات القضاء وعدم انتزاع سلطته أو المساس بها أو الافتئات على كلمته ، فهذا أمر هو الآخر لا يمكن الاختلاف عليه، فهو أمر محسوم لصالح القضاء حتماً ولصالح حياديته واستقلاليته التي تمر بفصل السلطات وليس بالشيء ونقيضه، بقضاء فاعل وحازم طليق الجناحين لا تكبله تدخلات أو اعتبارات ولا يخضع لضغوط تؤثر عليه وعلى سير أحكامه ، ولكن ما أثاره المحامي العام الأول على خلفية ما نشرته الصحافة من معلومات حول تجاوزات مالية وادارية بمعهد التنمية السياسية، قد دعاه في موقف مفاجئ وباعث على الدهشة إلى التلويح بالعقاب والحساب بحق كل صحيفة تواصل نشر أي معلومات حول هذه القضية بذريعة ” عدم توجيه الصحافة للرأي العام أو التأثير على مجرى العدالة “، وما يؤرق في هذا الكلام أنه يوحي للوهلة الأولى بأن مجريات التحقيق في أي قضية وليس قضية المعهد فحسب وأحكام القضاء بوجه عام، هي عرضة للتأثر بما ينشر أو بما يتداوله الناس من معلومات ووقائع ، ونتساءل بافتراض التسليم بذلك المنطق . لماذا لا ينطبق هذا الكلام على تلك الأخبار والمعلومات التي مصدرها النيابة العامة والتي تتصل بعشرات القضايا التي لم يستكمل التحقيق فيها، والتي نشرت تفاصيل عنها وهي في طور التحقيق وبوسع المرء أن يستخرج من الذاكرة ومن أرشيف أي جريدة محلية ما لا حصر له من هذه القضايا التي تناولت أموراً في غاية الأهمية والحساسية . ليسمح لنا المحامي العام – مع تقديرنا له – أن نختلف معه فيما أثاره في شأن دور الصحافة، مؤكدين له بأن ما أثاره يبرز الحاجة الملحة الى التصحيح في نظرته لهذا الدور ولأحقية الصحافة في أن تمارس حقها الذي كفله الدستور ، وهو حق حرية التعبير، من دون أن يعني ذلك ” انتزاعاً من القضاء سلطته وافتئاتاً على كلمته ” . ذلك بالنسبة لـ ” لا ” الثانية . أما الثالثة ، أي لا لتمييع قضايا الفساد وتحويلها قضايا للمزايدة والإثارة وتصفية الحسابات أو محاولة تغيير مسارها لاعتبارات أو أسباب شتى، هذه القضايا التي قد تظل صحفنا تكتب فيها وعنها لعدة أسابيع ، وقد تتخللها أو تعقبها تصريحات نارية يتعهد فيها بعض المسؤولين بإجراءات حاسمة ورادعة لمنع تكرارها، وقد يعلنون عن تشكيل لجان تحقيق ثم لا يلبث أن يتحول الأمر الى عمل روتيني أو تكون هذه القضايا مادة يومية متكررة في الصحافة، ذلك يمثل كارثة يخشى أن تحمل معنى بأن ” الضمير العام ” بات يعيش أزمة وذلك له من الدلالة التي لا يجب أن نجيز لأنفسنا الغفلة عنه ، ولعل ما أثير في الآونة الأخيرة من اكتشاف أكثر من قضية من قضايا التجاوزات والفساد ظهرت الى العلن، ناهيك عن قضايا سابقة لم يحرك أحد ساكناً حيالها تمثل شروخاً في واقعنا من الخطأ الفادح التهوين منها أو طمس وقائعها أو تجاهلها وعدم حسمها.
 
صحيفة الايام
8 اغسطس 2009