خطة السلام التي سيكشف عنها زعيم حزب العمال الكردستاني (عبدالله أوجلان) الشهر الجاري والمحكوم بالسجن مدى الحياة التي تقتضي حقائقها ومغازيها “وضع حد للأزمة السياسية الطاحنة ما بين الحكومة التركية والمعارضة الكردية، وتقديم حل للنزاع القائم ما بين الطرفين”.. هي خطة تستحق الدعم والمساندة من جميع الاطراف التركية والكردية (الرسمية والشعبية).. بقدر ما تستوجب من الهيئات والجمعيات والمنظمات الدولية الاهتمام بها، واتخاذ زمام المبادرة إلى تناولها ومناقشة مفاهيمها وتداعياتها.
ولكن الحكومة التركية قد اتخذت موقفا سلبيا ازاء هذه الخطة اتسم بردود افعال استعلائية وفوقية، وذلك عندما رد وزير الخارجية التركي (احمد داود اوجلو) بجفاء واقتضاب قائلا “إن تركيا ستضع حلولا بنفسها، مجالات بحث هذه المسائل معروفة، انها مجلس الوزراء ومجلس الامن القومي”.. هذه الاجابة الرسمية للحكومة التركية، هي اجابة ان دلت على شيء فإنما تدل على ان الحكومة التركية قد جزأت وفتتت مفاهيم الدولة، ووضعت الفواصل ما بين (الحكومة والدولة)، وشيدت أو أقامت الحواجز ما بين (المؤسسات الرسمية والمؤسسات الشعبية) وفي مقدمتها احزاب المعارضة السياسية التي في ضوء السياسة الرسمية، تظل مكانتها ومهماتها مهمشة، وغير معترف بها، بل قمعها وملاحقة رموزها الوطنية.
أضف الى ذلك تجاهل الحكومة التركية بشكل متعمد معنى تلك العبارة القانونية والدستورية والسياسية والقائلة “إن الحكومة هي جزء من الدولة، وهي الجهاز المنسق والمنفذ لما تمليه الضرورة المجتمعية والحتمية الشعبية.. وهي الجهاز الخاضع لمبدأ الرقابة والمحاسبة والمساءلة تحت قبة السلطة التشريعية (البرلمان المنتخب)”.
إنه من الاهمية بمكان القول إن الحكومة التركية برفضها خطة السلام المقدمة من زعيم حزب العمال الكردستاني (عبدالله أوجلان) قد اكدت رفضها المصالحة الوطنية، ورفضها وقف نزيف الدم بمزيد من سقوط القرابين من القتلى والجرحى في حرب اندلعت شرارتها في عام 1984 ولاتزال مستمرة مدة خمسة وعشرين عاما، ما بين الحكومة والمعارضة راح ضحيتها (45 ألف قتيل)، من دون اعداد الجرحى والسجناء والمعتقلين والملاحقين.. بحسب ما اكدت وتؤكد الحكومة التركية من جهة اخرى امام الشعوب على وجه البسيطة وامام الهيئات والمنظمات الدولية، وفي مقدمتها (هيئة الامم المتحدة)، عنجهيتها وتعجرفها بتبني سياسة استبدادية اوتوقراطية بحق المعارضة السياسية.. وسياسة عرقية وشوفينية بحق شعبها من الاكراد.. ويكفي استدلالا معاناة الاكراد البالغ عددهم عشرات الملايين، الاضطهاد القومي او العرقي، ومكابدتهم مرتبة الدونية والتهميش وحرمانهم من حقوق المواطنة المشروعة، بشأن معاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية.. مواطنين بلا هوية ولا تاريخ ولا وطن.. فهم محرومون من التحدث بلغتهم والحظر على معتقداتهم وثقافتهم.. ليتضاعف هذا الاضطهاد فيشمل ملاحقتهم والزج بهم في غياهب السجون والمعتقلات.
في نهاية المطاف يبقى القول صحيحا في ظل مناخ سياسي كهذا، يعاني فيه الاكراد في تركيا مصادرة حقوقهم السياسية والاجتماعية والمدنية، واستثناءهم من حق المشاركة في اتخاذ القرارات السياسية.. فإن كلمتهم تظل مهمشة وافكارهم مغيبة، وآراءهم مصادرة.. اذًا ليس بمستغرب ان ترفض الحكومة التركية خطة السلام التي تقدم بها زعيم حزب العمال الكردستاني (عبدالله اوجلان) في شهر اغسطس الجاري، طالما الحكومة التركية تجاهلت اصحاب المبادئ والرأي والضمير، وهمشت مكانتهم واعتبارهم وانسانيتهم، ومن ثم قلبت الحكومة التركية الموازين رأسا على عقب عند وصفها أولئك المناضلين الذين يناضلون من اجل شعبهم ووطنهم والحريات العامة والعدل والمساواة، بأنهم ارهابيون ومتطرفون.
كما انه ليس من الغرابة بشيء ان تضطهد الحكومة التركية كفاءاتها ومفكريها وعظماءها المبدعين.. لكون احد عباقرتها وهو الشاعر والاديب والمناضل التركي (ناظم حكمت) قد واجه ابشع الاضطهاد في بلده من عقد الثلاثينيات حتى عقد الخمسينيات من القرن الماضي، خلال رزوحه في أقبية السجون التركية طوال سبعة عشر عاما، ومن ثم معاناته مرارة الغربة واوجاع الاغتراب في منفاه خارج الوطن حتى وفاته في المنفى، ورفض الحكومة التركية نقل جثمانه الى وطنه على الرغم من وصيته التاريخية التي اوصى فيها بأن يدفن في بلده خلال قصيدته الشهيرة الرائعة والمؤثرة (الوصية).. فسلام عليك يا شاعر الفقراء ويا شاعر الانسانية، ويا شاعر واديب تركيا العظيم (ناظم حكمت).
صحيفة اخبار الخليج
7 اغسطس 2009