تزامنت التحولات الاقتصادية والاجتماعية العاصفة التي شهدتها مصر في أوائل سبعينيات القرن الماضي تحت شعار “الانفتاح الاقتصادي” الذي رفعه الرئيس المصري الراحل أنور السادات لتبرير الاجهاز تدريجيا وحثيثا على كل مكتسبات ثورة يوليو “الاشتراكية” والتحول إلى نظام الاقتصاد الحر الرأسمالي.. تزامنت تلك التحولات مع المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية الهائلة التي شهدتها بلدان الخليج العربي وعلى الاخص ذات الانتاج النفطي الكبير. وعلى كلا الجانبين: المصري والخليجي، ثمة تأثيرات متبادلة ألقت بإفرازاتها على منظومة القيم الاجتماعية التي كانت سائدة قبل التحولات المصرية الانفتاحية وقبل المتغيرات الخليجية النفطية.
فبفضل حرب اكتوبر 1973م التي جرى خلالها استخدام سلاح قطع النفط وما نجم عنه من ازمة اقتصادية غربية، وعلى الأخص في سوق الطاقة قفزت أسعار النفط صعوداً الى مستويات خيالية، وبسبب هذه الطفرة بعدئذ في الانتاج والأسعار عرفت اقطار الخليج انتعاشا ماليا واقتصادياً غير مسبوق انعكس ايجابا على ارتفاع الدخل القومي لهذه الاقطار وارتفاع مداخيل الافراد وانتعاش الاستثمارات. لكن هذه الوفرة المالية التي خلقها ارتفاع اسعار النفط كانت مخاتلة لم تنعكس على التوزيع العادل للثروات الوطنية ولو بالحدود الدنيا، على جميع فئات وطبقات شعوب الخليج إذ استأثرت بمعظمها فئات وشرائح محدودة تقبع في أعلى الهرم الاجتماعي ببلدان الخليج.
وفي مصر كان الوضع مشابها لكن من زاوية اخرى أي ليس من زاوية طفرة نفطية، بل من زاوية “انفتاحية طفيلية” فالانفتاح الاقتصادي الذي بشر به السادات طويلاً بأنه سينقل الشعب المصري بقدرة قادرة من حال الى حال أفضل، أو كما عبر في إحدى خطبه بأنه مع حلول عام 1980م سيصبح لدى كل مصري “عربية وفيلا” بفضل “الانفتاح الاقتصادي” والسلام مع اسرائيل، هذا الانفتاح الذي قيل إنه سيجلب الرخاء سرعان ما تبين للشعب المصري أنه لم يجلب لمصر، وتحديداً لفقرائها وطبقاتها المعدمة سوى الخراب والدمار الاقتصاديين على نحو اسوأ مما كانت عليه في زمن الحروب و”الاشتراكية” العربية.
وعلى الجانبين المصري والخليجي معاً كانت فاتورة تلك التحولات المصرية والمتغيرات الخليجية باهظة انعكست روحيا في اهتزاز منظومة القيم الاجتماعية من حيث شيوع قيم “الانانية” و”الخلاص الفردي”، والكذب والاحتيال وتفشي النزعات القطرية (بضم القاف) والتسفيه والحط من القيم القومية والاشتراكية.. وكل ذلك جرى أو تكلل على كلا الجانبين الخليجي والمصري بالتوازي مع صعود التيارات الدينية المتشددة التي رغم شعاراتها الدينية البراقة لم تستطع ان تحول دون استمرار تلك الظواهر والقيم الاجتماعية السلبية سواء التي جاء بها “الانفتاح” في أرض الكنانة أم التي جاء بها الرخاء النفطي المزعوم في بلدان الخليج.
ولأن الخراب الاقتصادي والمعيشي الذي احدثه الانفتاح في وادي النيل جاء اشد عنفاً وفتكاً وأكثر شمولاً في قطر تخطت اعداد نفوسه اليوم 75 مليوناً وهو ما يصل الى أكثر من ضعفي أقطار الخليج مجتمعة فكان ان ولدت من احشاء هذه الازمة ظاهرة لم تعرفها مصر وأقطار الخليج قبلاً في تاريخ العرب الحديث، ألا هي هجرة نسبة كبيرة من المصريين الى الخارج بحثاً عن الرزق أو تحسين الدخل، وعلى الاخص الى دول الخليج، وكانت أعداد المصريين في هذه الدول، كما هو معروف، قليلة أو محدودة قبيل “الانفتاح” والطفرة النفطية السبعينية، وبموازاة هذه الهجرة المصرية للخليج شهدت مصر انتعاشا سياحيا غير مسبوق كان عماده الأول سياحة الخليجيين الى مصر التي اصبحت لسنوات غير قليلة قبلتهم السياحية الأولى، وعلى الأخص من قبل ابناء الطبقة المتوسطة وصغار الحرفيين والتجار والموظفين.
فكيف كانت إذاً نظرة المصريين الذين هاجروا الى الخليج، الى الخليجيين؟ وكيف تكيفوا مع حياة وعادات بلدانهم؟ وما هي نظرة الخليجيين لأشقائهم المصريين الذين وفدوا إلى بلدانهم وحلوا ضيوفاً فيها لسنوات طويلة؟
وما هي النظرة التي كونها السياح الخليجيون الى مصر والمصريين من خلال زياراتهم السياحية المتكررة لمصر وبخاصة في السبعينيات؟ وما هي تأثيرات كل جانب في الآخر في سياق هذه التحولات القيمية والاجتماعية العاصفة التي أفرزتها حقبتا الانفتاح “السعيد” وطفرة “الرخاء” النفطي؟
لا شك ان الكتابات والدراسات التحليلية التي كتبت في هذا الشأن لمحاولة الاجابة عن كل تلك التساؤلات المهمة مازالت محدودة او تفتقر الى التأصيل العلمي الدقيق والتحليل الاقتصادي السياسي المعمق، بما في ذلك غياب تناول المشكلة في الاعمال الدرامية والروائية، ولكن من المحاولات الجديرة بالاشارة إليها الفيلم الوثائقي الذي اخرجته المخرجة المصرية نهى المعداوي “حكايات عادية” وقد تناولته بالتعليق الناقدة المصرية السينمائية التلفزيونية ماجدة موريس وهو ما سنتناوله بدورنا بالتعليق غداً كمحاولة او مقاربة لابراز ولو بعض ملامح صورة الآخر كما يراها كل منهما في عيونه.
صحيفة اخبار الخليج
3 اغسطس 2009