لابد أن تكون للقوى الوطنية اليسارية رؤية عميقة في المسار السياسي للبحرين خلال العقد القادم من القرن الحادي والعشرين، بما يحمله هذا التاريخ من ارتفاع عن الممارسات السياسية المحدودة للعقود الماضية، وأهم أمر في هذه الممارسات الاتكاء على قوى ليست من صميم هذا اليسار ولا من تاريخه، وهذا لا ينفي دورها وتضحياتها لكنها لا تملك رؤية عميقة متراكمة في النضال داخل هذا الوطن، وكيفية توحيد الشعب فيه.
لابد لهذا اليسار أن يؤمن بنفسه وبأن الناس نسيته لأسباب غيابه الخارج عن إرادته وبسبب كثرة القمع له، وليس لخطأ في أفكاره.
فعليه ألا يستند على أحدٍ من خارجه، ويثق بنفسه، وانه قادر على إيجاد انعطافة سياسية وانعطافة اقتصادية في هذا البلد، لأنه يفهم ما لا يفهمه الآخرون، ولأن برامجه أقرب للواقع الموضوعي، أقرب لمصالح أغلبية الشعب.
بل إن البلد كله ينتظر عودته للنشاط الحقيقي، نشاط الوطنية ودعم المشروعات الاقتصادية العامة والخاصة، وتصعيد حضور العمال البحرينيين في الاقتصاد الوطني وتصعيد حضور النساء، وتصعيد حضور الثقافة الوطنية.
لقد امتلك اليسار البحريني خبرة كبيرة في السياسة وفي معرفة الحياة الاجتماعية والاقتصادية، ولديه كوادر كثيرة في شتى المجالات قادرة على طرح مشروعات القوانين ومراقبة الوزارات في أداء أعمالها، وفي توفير استقرار عميق لا مؤقت للبلد.
فعلينا ألا نركن مثل هذا الحضور على قوى أخرى، فحتى هذه القوى الأخرى الدينية تعيش فترة اضطراب تاريخي، وقد كشفت أحداث إيران ان الاتكاء على الآراء الدينية العامة المجردة لا يصلح لقيادة شعب ولا لإرساء ديمقراطية عصرية، وقد نامت مثل هذه القوى على الخارج، الذي تصورته مطلقاً وأبدياً، فلم تدرس الاقتصاد المحلي ومشاكله، وضروة إصلاحه بشكل عميق.
ولكن المياه تجري من تحت الطواحين، فمهما كان الماضي فالمستقبل مختلف، والديمقراطية تتغلغل في كل التيارات، وتعيد تشكلها، وكما هي تريد إصلاح الواقع فإن الواقع يصلحها.
إن أمامنا تاريخا وطنيا مختلفا، الكل فيه يتغير، ونحن بحاجة إلى اقتصاد بحريني حقيقي قوي، في ظل الانهيارات الاقتصادية والسياسية المتعاقبة، ومن المهم ذكر السلبيات العميقة داخل هذا الاقتصاد ودراسة خطط الخروج من هذه السلبيات.
نحن بحاجة في اليسار إلى قادة سياسيين واقتصاديين يطرحون البدائل المعقولة الممكنة على مدى السنوات القليلة القادمة، فنحن لا نستطيع تقديم حلول جذرية أبدية، بل حلول مرحلية سوف تتطور ولا شك مع معالجة الظروف.
إن الرأسمالية الحكومية بحاجة إلى تغييرات عميقة داخلها، تخفف من المركزية والبيروقراطية، ومن المصروفات الهائلة غير الحقيقية، ومن الفساد، ونريد إدارات حكومية اقتصادية مقاربة لاقتصاد السوق، والإدارات الاقتصادية الراهنة والشركات الحكومية ليست كذلك، وحتى معلوماتنا عنها مغيبة بشكل كبير في الوقت الراهن.
كما نريدُ من الرأسمالية الخاصة مقاربة أكبر مع المصالح الوطنية، وخاصة لظروف العاملين في البلد من رجال ونساء، وفي هذه المقاربة ليس هناك إجبار بيروقراطي كما يحدث الآن، بل خطة موضوعية على جانبي الرأسمالية الحكومية والرأسمالية الخاصة.
هذه خطوط عامة تبقى خاضعة للدرس والإحصاءات والتحليلات، ولكن الأهم هو وجود رؤية عامة، لا تتعلق فقط بتغيير النمط الاقتصادي الثنائي المتصارع بل تتوجه للجمع بينهما في مركب وطني، يخضع للمراحل والتنازلات المشتركة، وعلى أساس تصعيد القوى العاملة المحلية ثم العربية ثم الأجنبية.
يقع الاقتصاد في القلب من العملية الانتخابية ومستقبل البلد القادم، وربما لا يفهم الناس مثل هذه الشعارات والتحليلات العامة الاقتصادية المركبة، لكن في مستوى المشاركة والحوار يمكن تبسيط مثل هذه القضايا، فهي ذات حضور كبير وساخن في حياة الناس.
لا بد أن يترك اليسار الأحاديث المطولة عن الوحدة الوطنية وغيرها من الشعارات التي أصبحت متجاوزة، بل أن يركز في مصالح الأغلبية الشعبية حاملاً لها برنامجه العام، ومستفيداً من ملاحظاتها التي سوف تثريه بخبرتها ومعاناتها.
أما الأحاديث عن مواقع مغلقة ومواقع مفتوحة فهو أمر نسبي وزائل، ونحن قادرون على اختراق كل الصعوبات وكل الحواجز وكل المواقع المستحيلة، فنحن الباقون وهم المتغيرون الراحلون، نحن صوت الأغلبية المستقبلية الصاعدة أساس هذا الشعب.
فثقوا بأنفسكم ولا تأخذوا الثقة من غيركم الراحل، الذي سوف يتغير خلال السنوات القادمة، ولن يعود هو هو، وسوف يلتحق بكم كثيرٌ منه، ويبتعد عنكم قليل منه.
لابد أن تكونوا الرؤية والصخرة التي تجذب الانهيارات السياسية وتكونوا قطب الجذب الوطني الكبير، المستقبل أمامكم!
هذا يتطلب لا الاستشعار بالصغر ولا الكبر المتعاظم المغرور بنفسه، بل الدارس لكل شيء، المتعلم من الآخرين.
الذي لا يعمل للتحدي وهز النظام بل لتطوير الحياة الاجتماعية للمواطنين، الذي يستند إلى مواثيق النظام والدين والشعب، ليرفعها إلى لحظة أعلى تستجيب لمشكلات الناس، وليس لمجردات خيالية.
بؤرتنا هي مصالح الجمهور العريض لا هذه الفئة أو تلك، وسوف نتطور ونطور الوطن.
صحيفة اخبار الخليج
3 اغسطس 2009