مما لا ريب فيه ان هزيمة العرب في يونيو 1967 أمام إسرائيل هي أخطر واكبر الهزائم العسكرية والسياسية معا في تاريخهم الحديث، وبالرغم من مرور اكثر اربعة عقود على وقوعها مازال العرب يعانون نتائجها الكارثية على مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية والحضارية، بل مازالوا يواجهون مضاعفاتها عاما بعد عاما دونما ان يتمكنوا من التخلص منها.
ومن نافلة القول ان احد الاسباب الرئيسية لذلك هو تغييب المراجعة والنقد الذاتي للعوامل التي افضت الى الهزيمة، وعلى الأخص من قبل الدول العربية التي خاضت جيوشها حرب عام 1967 ألا هي مصر وسوريا والاردن، وبصفة خاصة الدولة الأولى بصفتها اكبر هذه الدول وأقواها عسكريا التي كانت تحتضن وتتزعم المشروع القومي العربي لمواجهة إسرائيل ولتحرير فلسطين.
ولعل التعتيم المحكم على خلفيات وقائع الهزيمة وما يرتبط بها من معلومات وضرب طوق من السرية المشددة حولها رغم مرور اكثر من 40 عاما على حرب 1967 يعكس الخوف من كشف اسرار الحرب لأن هذا الكشف يفرض مطالبة الناس بالنقد الذاتي والتصحيح والمراجعة في حين مازالت القاهرة غير مستعدة للإقدام على مجازفة سياسية كهذه من شأنها ان تفضي بدورها الى جدلين سياسي ومجتمعي موسعين يخرجان حدود الضوابط المرغوب فيها ويدحرجان رؤوسا مدينة في بقائها داخل الجيش والسلطة السياسية الى قيادات سياسية وعسكرية سابقة ضالعة في التسبب في هزيمة .1967
وقد يتطور هذا الجدل ذاته إلى فتح الباب على مصراعيه حول مدى شرعية السلطة القائمة ذاتها، أو على الأقل الطعن في شرعية مدى امتدادها لثورة يوليو التي تستمد شرعيتها منها.
الطوق الحديدي المضروب حول أسرار نكسة 1967 وكل الوثائق والمعلومات المهمة المرتبطة بها هو الذي ربما دفع محمد حسنين هيكل، أحد شهود الهزيمة، لعنونة سلسلة الاحاديث المتواصلة التي يرويها في قناة “الجزيرة” منذ مايو الماضي بـ “طلاسم 67”. وبالفعل فان هذا الغموض الذي يلف أسرار الهزيمة مازال أشبه بالطلاسم، وكلما اكتشِف أو أزيح الستار عن طلسم جديد، سواء من خلال شهادات أحد قادة الجيش المصري الذين شاركوا في الحرب، ام مما يرويه هيكل من احاديث، ام من شخصيات سياسية قيادية مصرية عاصرت وقائع النكسة، صعق المرء هولا من مدى حجم فساد القيادات العسكرية وضعف حسابات القيادتين العسكرية والسياسية، وبضمنها أبسط هذه الحسابات البسيطة العادية المفترضة لخوض حرب خطيرة ليس في ظل موازين مختلة بحدة لصالح اسرائيل عسكريا فحسب، بل في ظل غياب ادنى استعداد وأدنى جاهزية لتهيئة القوات المسلحة لخوض مثل تلك المعركة الخطيرة التي كان يجرى زجها حثيثا وبتهور فيها من دون تبصر او أدنى مبالاة بعواقبها الكارثية على مصر والامة العربية، فيما كل الشواهد المؤكدة استنادا إلى ما كشف عنه حتى الآن من “طلاسم” – على حد تعبير هيكل – تقطع يقينا بأن الجيش المصري يسير نحو كارثة مروعة، وذلك ما حدث تماما في حرب الأيام الستة المأساوية الفاجعة (من 5 إلى 10 يونيو 1967).
وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي عام 1991، حليف مصر الناصرية الاساسي سياسيا وعسكريا، وعلى الأخص منذ اواخر التسعينيات، أخذت تتكشف تباعا طلاسم اسرار جديدة مجهولة حول هزيمة 1967 في غاية الاهمية والخطورة وذلك على ألسنة قادة سياسيين وعسكريين سوفيت سابقين ما كان بمقدورهم الادلاء بتلك الشهادات المهمة في ظل النظام الشمولي المركزي الحديدي السابق الذي كان يتصف كما هو معروف بالتكتم الشديد وفرض السرية حول الوثائق والمعلومات المتصلة بالحروب التي يخوضها أو يخوضها حلفاؤه، ولاسيما اذا ما انتهت بالهزيمة، كالحرب التي خاضتها حليفته مصر في وجه العدوان الاسرائيلي عام .1967
ولعل واحدا من أهم “الطلاسم” المتصلة بمقدمات الحرب والاستعدادات ما كشف عنه مؤخرا الخبير الاقتصادي السوفيتي الكبير بافل اكوبوف وعلى وجه التحديد فيما يتعلق بالمباحثات البالغة الأهمية التي جرت بين وفد عسكري مصري على مستوى عال بقيادة وزير الحربية الفريق شمس بدران ومجموعة من القادة السياسيين والعسكريين السوفيت الكبار بقيادة عضو المكتب السياسي ورئيس الوزراء حينذاك اليكسي كوسجين، اهمية ذلك الاجتماع انه جاء بناء على طلب الرئيس جمال عبدالناصر للتعرف على مدى حجم وحدود الدعم والمساندة السياسيين والعسكريين اللذين ستقدمهما موسكو لمصر في حالة خوضها الحرب الوشيكة، وحيث كانت الاولى في منتهى الصراحة والوضوح في تحديد موقفها من الحرب لو اقدمت عليها مصر لا اسرائيل. علما بأن ثمة شهادات مصرية غير دقيقة روجت أن المباحثات اسفرت عن اعلان موسكو موقفها الداعم بقوة وبلا حدود الى جانب القاهرة حتى لو كانت هذه الأخيرة هي البادئة بالحرب.
وتكتسب شهادة اكوبوف الخبير السياسي الاقتصادي السوفيتي أهميتها لكونه يعد اليوم هو الوحيد من تبقى على قيد الحياة ممن شاركوا في تلك المباحثات المهمة المشتركة بين الجانبين الروسي والمصري، ناهيك عن خبرته كخبير معمر كبير صقلته التجارب على علم بالكثير من خفايا واسرار العلاقات السوفيتية المصرية في تلك الفترة فهو من مواليد عام 1926، اي يبلغ عمره اليوم 83 عاما، وتخرج في معهد الاقتصاد عام 1960، كما تخرج في الاكاديمية الدبلوماسية السوفيتية. وفي العام نفسه عين مستشارا اقتصاديا في سفارة بلاده بالقاهرة مدة خمس سنوات متواصلة، وعاد الى بلاده، ثم عين مرة اخرى مبعوثا ومستشارا دبلوماسيا من عام 1968 حتى عام 1977 في البعثة الدبلوماسية نفسها لبلاده بالقاهرة كما عين سفيرا في الكويت وليبيا، وشارك في العديد من مباحثات القمة الثنائية بين قيادة بلاده وقيادات عدة دول عربية، كل على حدة، في أوقات مختلفة قبل سقوط الاتحاد السوفيتي.
صحيفة اخبار الخليج
1 اغسطس 2009