الديمقراطية هي نتاجُ الرأسمالية الخاصة الغربية، هي وليدتها وابنتها الشرعية، أما في غيرهِا فهي لقيطة، كائنٌ غير معروف السلالة والهوية!
ومن يستطع أن يُنتجَ الشروط التاريخية نفسها التي وُلدت بها الديمقراطية الغربية يستطع إنشاء هياكلها السياسية.
وكلما تضخمتْ الرأسمالية الحكومية الشرقية زادتْ الاستحالة.
والعكس صحيح،
أي كلما قل حضورُ الرأسماليةِ الحكومية زادت إمكانياتُ الديمقراطية.
فإذا كانت الحكوماتُ الشرقية تمتلكُ أغلبَ الاقتصاد ويعيش عليه أغلب السكان كيف يمكن أن يظهرَ التصويتُ الحر؟!
إلا من خلال ما يناقض الديمقراطية، أي عبر عصبيات القبيلة، والمذهب، والمنطقة، والعنصر!
أي أن تقوم جماعاتٌ بالتمرد على البناء المشترك الذي يُنتظر أن يتماسك.
وهذه المعضلة ناتجة عن الفروق التاريخية الكبيرة بين الغرب والشرق، بين مكان التصدير ومكان الاستيراد، بين منطقةٍ عاشتْ قروناً على تكوين التماسك التحديثي القومي في كلِ بلد، وبين منطقةٍ عاشتْ على التفتتِ المرتكز على مكوناتها التي لم تـُعالجْ خلال القرون، ثم جاءَ الغربُ بصيغهِ وإنتاجهِ وسياساتهِ وأرادَ من العالم الشرقي أن يكون على منواله.
وحين ترتبط الرأسمالية الحكومية الشرقية بالحزب العسكري الواسع ذي الميليشيا والمخابرات العنيفة تستحيلُ الديمقراطية كلياً. كنماذج العراق السابق وسوريا وإيران وبورما وليبيا وغيرها.
حين يجرى امتلاك الموارد العامة والمذهب والقوة، أي مكان سوف يظهرُ للفردِ المختلفِ مع الحكومة وكل هذه السلطات والإمكانيات تسيطرُ عليه؟!
وربما تكفي حتى القوة لردع هذا الفرد عن التفكير في سره بشكل مغاير عن أجواء الرعب المحيطة.
ولهذا فإن تجارب الديمقراطية ينبغي أن تقرأ هذه التاريخية، الموضوعية، أي أن تقوم بتفكيك الرأسمالية الحكومية والبُنى الاجتماعية القبلية والطائفية والعنصرية، ولكن من يقوم بهذا التفكيك وكيف وكيفية التعانق بين عمليات التفكيك هذه والانتخابات الصراعية العنيفة التي تجرى على هذه الأسس الاجتماعية والاقتصادية المتناقضة مع الديمقراطية؟
في بلد يعيش على القبائل المتصارعة المتحاربة تغدو الديمقراطية حرباً أهلية!
في بلد يعيش صراعات العروق والمناطق والأديان تصير الديمقراطية صراعات على مناطق النفط والأراضي ويغدو رئيس الجمهورية المرشح الأوفر حظاً في الحكم الديمقراطي مطلوباً كذلك بتهم الإبادة للبشر!
كلما كانت الموروثات الاجتماعية أكثر تخلفاً ومرتبطة بالعنف مثلما تغدو الرأسمالية الحكومية فاسدة وتعيش في العتمة، تتناحر المدينة والريف عبر الحرب الأهلية ويُستخدم فيها الجيش بضراوة ويتم إخلاء المناطق من ملايين السكان، فتتوحد الديمقراطية هنا مع البطش الواسع النطاق بالمتمردين والارهابيين!
وكلما اقتربنا من المناطق الإسلامية زادت عمليات التوتر، وانتقلت للنسيج الديني.
والمنقذ من ذلك هو الرأسمالية الخاصة التي اغتنت بالتراث الليبرالي واندمجت مع الأهالي والتراث الإسلامي والعمال، وهذا لا يصير إلا حين تشتغل في الأرض ولا تخاف من مصادرات الحكومات وتدخلاتها في الاقتصاد والإعلام.
وهكذا فإن نشوء الديمقراطية يعتمد على مثل هذه الإجراءات التي لا تأتي إلا في سياقات تاريخية طويلة، ومشاكل الناس ملحة، والفقر وضعف الإسكان بسبب قدم المدن واهتراء أبنيتها ومناطقها ومواصلاتها، وتدهور الخدمات العامة جزء من الفساد ومن عدم تعاون القوى الحكومية والأهلية، والأحزاب المعارضة الحادة تريد سيطرة، وامتداداً تواصل به عمليات التأزيم، والحكومات تواصل الحفاظ على ممتلكاتها واستخدام نفوذها في التصويت المبرمج الذي هو شكل آخر للتعصب الديني وطرقه في التحشيد، يضيع الناس وتفشل قوى الليبرالية والديمقراطية في الوصول للأصوات وتنفيذ الإصلاحات.
ويحدد الاقتراب من الديمقراطية مدى تفكيك الرأسمالية الحكومية بمختلف عمليات المراقبة والمشاركة في الإدارة وتوزيع الفوائض، ومدى تفكيك مصادر القوة الاستبدادية في المذهبية والعنصرية والقبلية وغيرها من المعرقلات.
فهو صراع على جبهتين، تنشأ عبره سلطة الديمقراطية الوليدة وثقافتها، فحين تتوجه القوى المستفيدة من تنامي الديمقراطية نحو الأعمال المشتركة، وتطوير حياة الناس المعيشية والخدمات الموسعة لها، تتنامى العلاقات الوطنية، ودون حدوث ذلك يظل الناس في المربع الأول.
كذلك من الضروري إخراج المفردات الحكومية الكبيرة من الدخول في عمليات الانتخابات، وإذا دخلت يظل المربع الناري مسيطراً.
التنازلات المشتركة من قبل الفرقاء الكبار هو الذي أسس الاستقرار السياسي وعمليات التغيير المتدرجة، ويلاحظ ذلك في تراجع وتيرة العنف في العديد من البلدان بعد أن بلغت مكانة مرعبة، وانعاش حياة المواطنين في كل بلد هو الثمرة التي تتجلى من خلال هذه التوافقات.
هذه مجرد خطوات لمقاربة الديمقراطية حتى يتطور الهيكل الاقتصادي إلى مستوى أن يغدو الحاضنة القوية للديمقراطية.
صحيفة اخبار الخليج
31 يوليو 2009