سرى في عروق الثوري ستانسلاف وورسل (Worcell 1799 – 1857) مزيج من الدماء الألمانية والبولندية والروسية، وفي تربيته من الديانتين اليهودية والمسيحية. لكن هذا المزيج أثمر ثوريا اشتراكيا ديمقراطيا شارك في البدء بنشاط في الانتفاضة البولونية ,311830 وفي المنفى أصبح عضو قيادة الجماعة الديمقراطية البولندية ونصيرا للاتحاد الثوري البولندي- الروسي ثم عضوا بارزا في اللجنة المركزية الأوربية في ثلاثينات وأربعينات ذلك القرن. خبر هذا الثوري المحترف تجارب اتجاهات وتيارات وحركات فكرية سياسية في بلدان عديدة. ومن خلاصة تجاربه الغنية أعطى تعريفا لمصطلح الحركة بمعناها الاجتماعي السياسي، يعدّ في الوقت نفسه حكمة بالغة ‘أثناء أية حركة تتحقق واحدة فقط من حالات ثلاث: إما الاقتراب من الهدف، إما الابتعاد عنه وإما الدوران حول الهدف. والحالة الأخيرة تعني فقط استنفاد قوى الحياة’. ولنا أن نستفيد من هذه الحكمة فيما يجري في البحرين هذه الأيام.
بشكل مبكر هذه المرة بدأت تدب في المجتمع حركة نشطة تعكس تهيؤ القوى الدينية على ضفتي الطائفية والقوى السياسية الديمقراطية وتوجهات واستعدادات هذه القوى لخوض غمار معارك الانتخابات النيابية والبلدية في مملكة البحرين للعام ,2010 وفيما بين هذه القوى الأساسية تتحرك أيضا أوساط رجال المال والأعمال ومن يسمون أنفسهم بالمستقلين أو المحسوبين على نفوذ المال السياسي. مضمون الحركة مختلف لكل منها، إنه يعكس قلق القوى الإسلاموية والمستقلين من تراجع في مواقعها بسبب السخط الجماهيري إزاء أدائها، في الوقت الذي تتحدث عن السعي لحصد عدد أكبر من المقاعد في الانتخابات المقبلة، كما يعكس قلق القوى الديمقراطية من احتمال عدم إحراز مواقع تذكر لتكتفي بذكريات أمجادها السابقة، لكنها بدأت التحرك في إطار جديد يضم قواها الأساسية، أما القوى ‘الاقتصادية’ فتبدو غير واثقة من قدراتها السياسية ومن مدى أهليتها لدخول المعترك الانتخابي النيابي، ناهيك عن البلدي، لكنها أيضا بدأت تنتقل من حالة وجود مجرد لجنة معنية بالشأن السياسي في غرفة صناعة وتجارة البحرين، إلى الانخراط في الشأن السياسي والتحرك نحو خوض الانتخابات المقبلة.
وبين كل أنواع الحركة هذه تهمنا أكثر حركة قوى التيار الوطني الديمقراطي الذي من وجهة نظر مصلحته، وبالتالي مصلحة تطور الديمقراطية في البلاد نتحدث. في الأشهر، وخصوصا الأسابيع القليلة الماضية حفلت الصحافة والمجالس البحرينية بكتابات ومناقشات حول واقع هذا التيار ودوره المستقبلي. واشترك في هذا الجدل كتاب ونشطاء من تنظيمات التيار أو جسمه عموما، ومن أنصاره وأصدقائه أو حتى من المراقبين لتغيرات أوضاع الأشياء. ومن جانب آخر، بدأ ممثلو قوى معينة برمي سهام النقد والتشويه باتجاه هذا التيار جاهدين للتأكيد بأنه أصبح خارج المكان والزمان. حقيقة الأمر أن كل أنواع الحركة المتناقضة حول التيار الديمقراطي تعكس أهمية هذا التيار في المعادلة الاجتماعية السياسية الراهنة والمستقبلية، وتطرح السؤال الكبير: كيف ستكون حركة هذا التيار نفسه، وفي أي اتجاه؟ لقد بدأ هذا التيار يعطي إجاباته الأولى بإيجاد إطار يضم مكوناته الرئيسة الثلاث: المنبر التقدمي، ‘وعد’، والتجمع القومي وباتخاذ مواقف مشتركة حيال عدد من القضايا، خصوصا المستجدة. وهو يعد بأن يعلن للجماهير البحرينية قريبا وثيقته البرنامجية الأولى التي ستشكل أرضية تحركه المستقبلي. وبذلك سيحدّد التيار الوطني الديمقراطي مكانه في الخارطة الاجتماعية السياسية ومعايير قربه أو بعده من كل موقف من مواقف أي من الاتجاهات الفكرية والقوى السياسية الأخرى ومن هذا أو ذاك من برامج وإجراءات السلطة السياسية.
إن الجماهير لن تفهم التيار الديمقراطي ما لم يخرج عليها بهويته المحددة: تيار وطني، ديمقراطي، علماني ومنحاز بشكل واضح لمصالح الجماهير الشعبية، وخصوصا المحرومين والمهمشين. وهذا ما يجب أن تعكسه الأرضية السياسية التي ستنطلق منها التنظيمات السياسية الثلاثة. لكن التيار لن يستطيع تحقيق برنامجه ما لم يصبح مهيئا لذلك داخليا. فإذا ما تمكن من إتمام بنائه الداخلي الذي يضم إلى جانب القوى الرئيسة الثلاث قوى سياسية أخرى والشخصيات الوطنية من أبناء هذا التيار أو أصدقائه، فإنه عند ذاك، بل وبعد ذاك فقط، سيكون قادرا على أن يصبح مفهوما لدى جزء كبير من ممثلي القوى ‘الاقتصادية’ وتكنوقراط الدولة والاتجاهات المستقلة وحتى المتنورين من رجال الدين وأن يكسب دعمهم على أساس برنامجه هو، لا برامج الغير.
وبتحديده لبرنامجه يتحدّد أيضا أن ليس بين التيار الديمقراطي والقوى الدينية، خصوصا المناضلة من أجل العدالة الاجتماعية خصومة مباشرة، بقدر ما يجب أن تكون في هذا الصدد معركة التيار الديمقراطي مع نفسه من أجل التميز عن القوى الدينية بشكل واضح وفاء للمنطلقات المبدئية للأرضية السياسية، وكذلك الحال بالنسبة للموقف من ممثلي القوى الأخرى من رجال أعمال أو مستقلين أو من قد تدعمهم السلطة السياسية بين المستقلين والقوى الدينية كذلك.
بعد كل ذلك ليس للتيار الوطني إلا أن يراهن على برنامجه العام لقيادة جماهيره أو برنامجه الانتخابي للوصول إلى البرلمان والبلديات بدعم من جماهيره أساسا ولكي يتحرك من هناك نحو تحقيق برنامجه العام. أما دعم القوى الأخرى، كالوفاق مثلا، إذا كان سيتحقق فيجب أن يتحقق وفق معادلة منطقية يمكن صياغتها كالتالي: إصرار الوفاقيين على الوصول لوحدهم يعني محاولة ثانية للانتحار السياسي، بالضبط كما أن إصرار الديمقراطيين على استجداء دعم الوفاق للوصول إلى البرلمان سيعني محاولة ثانية للانتحار السياسي أيضا. وهنا، للأسف، نكون أمام الحركة حول الهدف، التي تعني استنفادا لمقومات الحياة، كما أخبرنا المفكر والثوري وورسل.
صحيفة الوقت
27 يوليو 2009