لا شك أن المجتمعات الصغيرة ذات إنتاجية فكرية أقل، خاصة إذا ارتبطت بمناطق متصحرة أو ذات تاريخ نازف من الهجرة والانغلاق.
في مجتمع مثل العراق لم تستطع قوى القمع الرهيب على مدى نصف قرن أو أكثر، أن تعطل قواه العقلية عن الإنتاج، لأن مثقفيه في التيارات الحديثة السياسية كانوا ينتجون، رغم أن ربط الإنتاج الفكري بالسياسة أضر بعمق هذه التيارات في الرؤية وكشف الحياة والتاريخ.
لهذا نجد أن رواد النهضة العربية الذين ظهروا في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، اصدروا موسوعات حفرية، مثل جواد علي الذي كان كتابه “تاريخ العرب قبل الإسلام” في عشرة أجزاء هو المرجع الرئيسي لمن أراد أن يعرف كيف كانت الجزيرة العربية قبل الإسلام، والذي لم يقم فيه بتعميمات تاريخية، بل قام يرصد عبر الأدلة ما كان قبل الإسلام، من دون قفزات وافتراضات خيالية كما فعل آخرون في الفترة الأخيرة.
وعيب التيارات التي نشأت بعد عصر الرواد أنها – إضافة إلى ما قلناه عن الربط السريع والآلي بين السياسة وشتى ظواهر الحياة – أنها لم تطور ثقافة الرواد الموسوعية الليبرالية النهضوية.
لقد كانت الأرض بكراً وعمل هؤلاء في مشاغلهم على إنتاج البنية التحتية للعقلانية العربية التراثية، ووضع الأسس الأولى للأنواع الأدبية، فجاءتْ التياراتُ السياسية من يساريين وقوميين ودينيين، بأدلجةِ الثقافة، وجعل كل شيء خاضعاً للسياسة، وبدلاً من إنتاج الموسوعة صار إنتاج الدراسة ثم المقالة ثم العمود الصحفي.
حتى في الأطروحات الفكرية والتراثية خضعت الثقافة لهذه الأدلجة الوقتية، المتحولة، المتضاربة، المتضادة، القشورية.
لم يكن بإمكان مثل هذه الثقافة أن تنتقل من القشرة إلى الأعماق، فغدا الإنتاج، مثل الفئات المنتجة، طافيا فوق تيارات الحياة السياسية القوية، خاضعا لتقلباتها وجزئياتها وشعاراتها.
وفي حين كان الرواد مرتبطين بمشروع الحداثة العالمي، ذي المشتركات بين الشرق والغرب، خضعت التيارات الجديدة للصراع الأيديولوجي بين الشرق والغرب، فغدت أصداء لشمولياته المختلفة، وبهذا عجزت عن مراكمة أشياء كبيرة متصاعدة.
فيما كانت الثقافة التأسيسية تستبصر التأثير في مدى مرحلة تاريخية كاملة رأت الثقافة الراهنة التأثير في الراهن، وفي التقلبات السياسية.
وفيما رأت الأولى تغيير المجتمع رأت الثانية الوصول إلى السلطة بأسرع طريق.
غاب الخط الاستراتيجي النهضوي عن هذه الثقافة فدخلت في القفز على الواقع وسببيات الفنون والآداب.
وكما كانت مغامرات العسكريين فوق البنى الاجتماعية ولم تكن تحولاً تغييراً عميقاً من داخلها، كذلك كانت الثقافة والإنتاجات الأدبية والفنية، لكن هناك آداباً تعسرت على القفزة العسكرية ومن ثم الدينية والأنظمة الغريبة التي نتجت عن قوى التحولات، وهي الأنواع الأدبية التي اتصلت خاصة بالإنتاج الفردي الذي كان من الصعب على الدبابة أن تصل إلى سده، ولهذا فإن الرواية والقصة القصيرة والقصيدة استطاعت أن تهرب بجلدها الفني وتحقق تطوراتها من دون أن تتمكن بطبيعة الحال من التمثل العميق الواسع للواقع.
ولهذا فإن الفنون الجماهيرية هي التي تعرضت للتدهور؛ خاصة المسرح، المسلسل الدرامي المسلسل الإذاعي، ولحق بها الشعر الجماهيري، لأن انكفاءات الشعر الداخلية ظلت متوهجة.
إن الرواية ككائن أدبي مركب وعميق وناءٍ عن الرقابة غير الفنون(الهشة) المعرضة للاختراق والمنع وإعادة الإنتاج كما تريد السلطات، بأشكال شديدة التنوع والخبث.
في الأدب والفن عموماً كانت أضرار الأفكار الشمولية الشرقية، المرتبطة بصعود الرأسماليات الحكومية المتعددة الأنواع (ماركسية، وقومية، ووطنية، ودينية)، أقل تضرراً من الرؤى الفكرية والسياسية. ولهذا كانت المرحلة السابقة، مرحلة الشموليات القومية، مرحلة أدبية، فالتفكير السياسي تغلف بالصور والأخيلة والرموز.
لكن الكثير من التشوهات تنتج عن الوعي السائد في المرحلة، وعي القفزات والمغامرات، وهو وعي يعكس أفكار الأمم الشرقية في رفضها الهيمنة الخارجية، في زمن تطور اقتصاداتها الضعيفة، ومن هنا كان الرفض الواسع لليبرالية الديمقراطية الوطنية، وهي كانت الحاضنة الواسعة لتفتحها التدريجي، فاشتغلت الفئات الوسطى الصغيرة على القفزات في السياسة والثقافة.
والمرحلة الليبرالية الجديدة الآن تأتي ليس من خلال تراكم واسع تم في السابق، في كل حقول المعرفة والثقافة، بل تأتي في زمن فوضوي، وسوف يزداد فوضوية، مع انهيار آخر الأنظمة الشمولية الشرقية، التي لا تعطي فرصة للقوى الداخلية الليبرالية فيها أن تتنفس، وتشق طريق التطور الديمقراطي وسط مفردات الدين والقومية المتصلبة.
إن المرحلة الليبرالية الجديدة تشهد فسيفساء من الكواكب السياسية المحطمة سابقاً، والمتناثرة في الأجواء، وغدا الغرب الحكومي المتسع شرقاً هو اللاعب الأكبر، سواء كانت شركات عابرة للقارات اصبحت حكومات، أو من قبل الحكومات التي لم تعد ممثلة كلية لتلك الشركات، ولهذا فإن مهمات الثقافة العربية السياسية والفكرية والإبداعية خاصة مع تحطم آخر الكواكب الشرقية الشمولية وتناثر بقاياها ومعاركها في الأجواء تغدو رهيبة.
صحيفة اخبار الخليج
26 يوليو 2009