مع نهاية شهر يونيو الماضي أصدر البنك الدولي تقريره السنوي لمؤشرات الحكم الصالح للعام 2009 والمتضمن ستة أبعاد أساسية، تتمثل في مؤشرات التمثيل السياسي والمحاسبة، والاستقرار السياسي وغياب العنف، وفاعلية الحكومات، والنوعية التنظيمية أو ما اصطلح على تسميته بجودة الإجراءات، وسيادة القانون ومكافحة الفساد. وحيث إن المؤشرات المذكورة تعتبر مقومات أساسية لا يصح تقييم أي نظام حكم من دون الرجوع إليها لمقاربتها بما هو قائم من تشريعات وأدوات رقابية ومن فاعلية لمؤسسات المجتمع المدني، التي تعتبر مسألة تحقيق مستويات فضلى من الشراكة بينها وبين الحكومات في حد ذاتها هي الأخرى مؤشر وعامل صحة لا يمكن إهماله، حتى نستطيع أن نحكم على مدى قدرة أنظمة الحكم من الاستفادة من تقويم ما أعوج من سياسات وما تفشى من فساد وما تم التراجع عنه من وعود، وقدرتها على النهوض بأي عملية إصلاح مفترضة. التقارير السنوية التي اعتاد البنك الدولي أن يصدرها منذ العام 1996، باتت تحظى في السنوات العشر الأخيرة باهتمام منقطع النظير من قبل المؤسسات الدولية المعنية بقضايا مكافحة الفساد والنزاهة والعمل الرقابي، خاصة وان التقرير أصبح يغطي بمؤشراته تلك أكثر من 202 بلد حول العالم، لتصبح تقاريره على درجة كبيرة من الأهمية للأمم المتحدة ومنظماتها حول العالم، مثل برلمانيون ضد الفساد والشفافية الدولية ومكافحة الفساد وحقوق الإنسان. فعلى الرغم من السمعة والدور الذي لعبه ويلعبه البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، في ما تعتبره قوى المعارضة السياسية وبشكل خاص التقدمية والوطنية منها من دور تخريبي يراد منه تشويه مسار الحراك الاجتماعي والاقتصادي في العديد من بلدان العالم، إلا أن تلك التقارير بدون شك، باتت تعتبر أحد المقاييس التي يمكن الرجوع إليها، وأحيانا مقارنتها بتقارير مماثلة لمنظمات الشفافية الدولية وبرلمانيون ضد الفساد ذات الصلة بمؤشرات الحكم الصالح. كبير الاقتصاديين في البنك الدولي “آرت كراي” ذكر بأن النبأ السار هو أن بعض الدول قد بدأت الاعتراف بتلك المؤشرات، فيما يتخذها البعض الآخر منطلقا لأجراء التحسينات المطلوبة على تشريعاتها وقوانينها وأدواتها الرقابية، ضمن الاستجابة لتحديات الحكم الصالح، التي يجب أن تتضافر فيها جهود صناع القرار في الحكومات والقطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني والمعارضة، باعتبارها مؤشرات مقوِمة لاتجاهات التنمية، خاصة في مجال مكافحة الفساد أو جودة الاجراءات. وفيما يشبه التوافق بين مختلف التقارير الدولية المعنية بمؤشرات الحكم الرشيد ومكافحة الفساد، تبقى دول بعينها باستمرار على رأس قائمة الدول الأكثر نزاهة وشفافية، وتمثيلا سياسيا جيدا ومستقرا، وإسهاما لمؤسسات المجتمع المدني، ومنها دول مثل نيوزيلندا ومعظم الدول الاسكندنافية والأوروبية، فيما تبقى غالبية دولنا العربية والآسيوية والافريقية متمسكة بذيل تلك القائمة، التي لا يمكنها أن تخطئ على الدوام، لنجد أن بعض دولنا العربية تحتفي بتقارير أقل شأنا وأكثر انحيازا وتوظيفا، رغم علم الجميع بعدم جدوى وأهمية تلك التقارير التي هي ليست محل مصداقية أصلا! لقد أطلقت جامعة الدول العربية ومنذ العام 2005 مبادرة ما اصطلح على تسميته “بمبادرة الإدارة الرشيدة” تحاشيا لأي حساسيات متوقعة لمعنى الحكم الصالح. فقد ذكرت الجامعة أن تلك المبادرة تأتي تلبية لتحقيق أهداف الألفية الجديدة مع حلول العام 2015 ومن بينها الحكم الصالح، وقد اهتدت دولنا العربية إلى عدة حيل التفافية، لتكتفي بمسميات عديدة. خلاصة القول، ستبقى محاولات حكوماتنا العربية المستمرة للهروب للأمام وعدم إعطاء الاعتبار لمقومات الحكم الصالح، هي محاولات بائسة لن تغير من واقع الأمر سوى تأجيله لسنوات معدودة، إلا أنها بكل تأكيد ستبقى مطالبة بتنفيذ شروط واتفاقيات العولمة وضرورة التعاطي مع تلك المؤشرات، خاصة وأن تفعيل الاتفاقيات وجلب الاستثمارات والترويج لها، والتي تحتاجها دولنا بشدة، أضحت مربوطة بكل تلك المؤشرات، التي لا مفر من التعاطي معها، فلابد من إيجاد تمثيل واستقرار سياسي تسنده التشريعات المتطورة، ولابد من مكافحة الفساد وتحقيق النزاهة، وتحسين التشريعات وجودة الأداء وزيادة مستويات وأدوات الرقابة، وفسح المجال أمام مؤسسات المجتمع المدني وتحقيق تداول سلمي للسلطات، وتحقيق دولة المؤسسات والقانون وازدهار الحريات العامة.
صحيفة الايام
26 يوليو 2009