لم يكن الروائيون الروس العظام من أمثال تولستوي وديستوفيسكي يطلقون لحاهم إن لم تكن تلك الظاهرة تمثل حالة من الثقافة والإرث السلافي لمجتمع ما زال في جذوره مرهونا بالماضي الإقطاعي. في مثل هذه المناخات والبيئة الثقافية كانت روسيا تعيش مخاضا من الصراع والتحولات بين ماضٍ إقطاعي آسيو – أوروبي وحاضر أوروبي ينحو نحو التطور والغربنة والتجديد والتحولات العصرية. هنا كانت محنة النبيلين، بوينوسوف ومورنوسوف، اللذين كانا يعيشان في موسكو، وهي تنشد بقوة وتنجذب نحو التغيير. وكانا ينتميان إلى أصول عريقة ويفيضان بالخيرات والثروة ويمتلكان أقناناً وفلاحين يقدرون ببضعة آلاف، غير أن أكثر ما كان كل منهما يتباهى به هو: لحيته، فلكل منهما لحية كثيفة وطويلة، الأول تمثلت بشكل عريض شبهت بالجاروف والثانية طويلة كذيل الحصان. فجأة صدر مرسوم قيصري بإزالة اللحى. ففي عصر بطرس سادت أنحاء روسيا أوضاع جديدة: كحلق اللحى، ارتداء الملابس الأجنبية وشرب القهوة وتدخين التبغ الخ من الغرائب القيصرية!! وحالما وصل الخبر إلى النبيلين وقعا في حيرة وذهول، ومع ذلك قررا ألا يحلقا لحيتيهما وان يتحاشيا مقابلة القيصر تعللا بالمرض. تذكر فيما بعد القيصر غيابهما المفاجئ فاستدعاهما. مكثا يتجادلان أيهما يذهب أولا ولم يخرجهما من ذلك الجدل والإصرار إلا قطعة النقد التي حسمت الجدل، إذ اختارت القطعة النبيل بوينوسوف. لحظتها ارتعشت أوصاله وحال وصوله إلى القيصر ارتمى عند أقدامه متوسلا: عفوك يا مولاي لا تحكم علي بالهوان في آخر العمر، ثم يمسك بيد القيصر محاولا لثمها، فصرخ به القيصر: قف! العقل يا نبيل لا يكمن في اللحية بل في الرأس ويوينوسوف لا يزال يخطو على أربع، ويتوسل: لا تحكم عليّ بالهوان يا مولاي. استشاط بطرس غضبا فنادى على خدمه وأمرهم بحلق لحية النبيل بالقوة. عاد يوينوسوف إلى كورنوسوف ودموعه تسيل مدرارة وهو يخفي بيديه ذقنه الاجرد، ولا يقوى على سرد ما جرى له. دخل الذعر كورنوسوف عند تفكيره بلقاء ينتظره مع القيصر. لحظتها قرر أن يزور منشيكوف طالبا نصيحته ومساعدته، وهو يرتجف: تشفع لي عند القيصر، عندها فكر منشيكوف في الأمر ومن أين يبدأ حديثه مع القيصر، ولما انتهى إلى أمره قال للقيصر. ما رأيك يا مولاي لو فرضت جزية على النبلاء تكفيرا عن إطالة اللحى؟ ألا تستفيد الخزينة من ذلك؟ وبالفعل كانت الخزينة الروسية في حالة سيئة، فقبل بالاقتراح فورا. فرح كورنوسوف وسارع بدفع الجزية ومنح ميدالية نحاسية منقوشاً عليها »تم توريد النقود«. طوق كورنوسوف عنقه بالميدالية وكأنها صليب، فبعد ذلك اليوم من ذا الذي يجرؤ على التعرض له بالسؤال »لماذا لم تحلق ذقنك ؟« صار بوسعه أن يمشي رافع اللحية، ويشير إلى الميدالية. بعد مضي عام من الحادثة، جاء محصلو الضرائب إليه لدفع جزية جديدة فقد انتهت صلاحية ميداليته ولم تعد لها أي قيمة وعليه ان يدفع للحصول على غيرها وإلا تعرض للعقاب. اضطر كورنوسوف إلى دفع جزية جديدة. بعد عام تكررت القصة، عندئذ لجأ كورنوسوف إلى عقله واخذ يقلب النظر في الأمر، هامسا إلى نفسه »يعني ذلك أنني في القريب لن يبقى لي شيء من ثروتي غير اللحية!«. في المرة الثالثة جاء الجباة فرأوا النبيل كورنوسوف يجلس حليق الذقن، وهو ينظر لهم بأعين حانقة. روى في اليوم التالي منشيكوف للقيصر عن مصير كورنوسوف، فضحك بطرس قائلا: هذا ما يستحقه هؤلاء. فليعتادوا على الأوضاع الجديدة. أما مشورتك بصدد الجزية فقد كانت ذكية. تصور أن لحية كورنوسوف وحدها غطت تكاليف ملابس فرقة عسكرية كاملة! لم تستمر الفكرة بعد فلسفة التغيير الأوروبي عند بطرس، فتحديث روسيا الفلاحية المشبعة بروح الاقنان والعبودية لا تكمن في بقاء أو حلق لحى النبلاء، ففقراء واقنان روسيا بمئات الآلاف ظلوا بلحاهم الأطول والاكثف من لحى النبيلين! إلى أن تحولت تلك الظاهرة إلى مزاج وحالة شخصية وفنية وتراثية عند النخب الثقافية الأوروبية وليست روسيا وحدها، ولكن ليست على الطريقة الروسية السلافية، كما هي لحيتا تولستوي وديستوفسكي وعصرهما المتلاطم بالصراع بين القديم والجديد.
صحيفة الايام
26 يوليو 2009