يثبت الرئيس الأمريكي ‘الجديد’ باراك أوباما يوماً بعد يوم عدم مقدرته، أو محدوديتها، على تجاوز كي لا نقول شق عصا الطاعة صقور اليمين الكلاسيكي المتجذر في النظام السياسي الأمريكي بجناحيه الحزب الديمقراطي الحاكم (راهناً) والحزب الجمهوري. فإبان الأزمة الإيرانية التي فجرها الإعلان المثير للجدل لنتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية، بذل أوباما جهداً كي ينأى بنفسه عن استغلال الفرصة للتدخل في الشؤون الداخلية الإيرانية، كما جرت عليه عادة الإدارات الأمريكية في دس أنفها في كل ما يعنيها أو لا يعنيها من أوضاع عالمية، في محاولة منه للتناسق مع نفسه ومع العهود التي قطعها على نفسه في غير مكان وفي غير مناسبة بانتهاج سياسة مغايرة لسياسة سلفه جورج بوش في التعاطي مع القضايا العالمية لاسيما مع قضايا العالم الإسلامي. إلا أنه، وتحت ضغط اليمين داخل حزبه والحزب الجمهوري، فقد اضطر فيما بعد للاستجابة لتلك الضغوط وذهب في خطاباته الموجهة للداخل الإيراني لحد الانحياز السافر لمرشح المعارضة مير حسين موسوي. في رحلة تصويب العلاقة مع موسكو التي شابها التوتر إبان ولاية صقور الجمهوريين بقيادة جورج بوش الابن، سجل الرئيس الأمريكي الجديد نقطة أخرى انهزامية أمام ضغط ‘المؤسسة’ المتمسكنة والمتمكنة (أي المتنفذة والنافذة حتى عظم ‘المؤسسة’، وهي هنا النظام السياسي الأمريكي). ففي تصريح له لإحدى شبكات التلفزة الأمريكية عشية زيارته لموسكو استخدم أوباما خطابين مختلفين في تقييم علاقته مع كل من الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف ورئيس وزرائه فلاديمير بوتين. ففي حين اعتبر أنه يمتلك علاقة وطيدة مع الرئيس الروسي وأن الأخير يتحلى بصفات إيجابية مشجعة على التعاون معه، فإنه وجه نقداً لاذعاً لرئيس الوزراء بوتين معتبراً أنه يعمل بعقلية الحرب الباردة إذ يضع رجلاً في الماضي وأخرى في الحاضر، على حد تعبيره، وذلك في محاولة لإحداث بلبلة بين الطاقم الحاكم في الكرملين. وكرر أوباما هذا الموقف اللافت في المؤتمر الصحفي الذي عقده مع ميدفيديف في اليوم الأول من زيارته لموسكو (يوم السادس من يوليو الجاري)، حيث قال في تقييمه للرئيس ميدفيديف ‘لقد وجدته صريحاً ومهنياً وأنه واضح بالنسبة إلى مصالح الروس، لكنه يسعى أيضاً إلى معرفة مصالح الولايات المتحدة’. في حين أشار إلى لقائه رئيس الوزراء فلاديمير بوتين على مائدة إفطار في اليوم الثاني من زيارته بالقول ‘على حد علمي، أن الرئيس ميدفيديف هو الرئيس، ورئيس الوزراء بوتين هو رئيس الوزراء’، متابعاً: ‘ما يهمني هو التعامع مع نظيري الرئيس’. هذه المواقف، خصوصاً التصريح الأول الذي أطلقه أوباما عشية زيارته لموسكو، أثارت حفيظة النخبة في موسكو وأجهزة الميديا الروسية، حيث كتب أحد المحررين يوم ٦ يوليو (اليوم الأول للزيارة) في صحيفة إزفيسيتا ‘ماذا جلب أوباما إلى روسيا؟’، قال فيه إن أوباما شخصية لازال يكتنفها الغموض حتى بعد مرور ستة أشهر على تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة. فقد وعد بإعادة الحيوية للعلاقات الروسية الأمريكية، ووعد بتحقيق اختراق في العالمين العربي والإسلامي، ووعد بتسوية الأوضاع في العراق وأفغانستان، إلا أن الرؤساء الأمريكيين اعتادوا - كما يذهب الكاتب - على إظهار ‘الوفاء’ للثقافة الأمريكية السائدة وذلك بأن يعد مرشحو الرئاسة جمهورهم ويشوِّقونه ثم لا يوفون بتلك الوعود. كاتب آخر في صحيفة موسكوفسكي كومسوموليتس كتب يقول بأن الرئيس أوباما اتخذ موقفاً لا سابقة له في علاقات البلدين عشية زيارته لموسكو، حين أعلن أنه متفاهم مع الرئيس ميدفيديف بينما وجه انتقادات لاذعة لرئيس الوزراء فلاديمير بوتين حين وصفه بأنه يضع رجلاً في الماضي وأخرى في الحاضر. يقول الكاتب إن بعض البلدان الغربية حاولت دق أسفين بين الرئيس الروسي ورئيس وزرائه إلا أن أوباما كان أجرؤهم وأكثرهم سفوراً في التحريض على هذا المنحى، وهو بذلك ارتكب خطأً فادحاً - حسب رأي الكاتب - بإثباته عدم جدارته لنيل ثقة الروس. لقد استمتع الأمريكيون بأيام عسل وحبور عندما كان الراحل بوريس يلتسن يحكم روسيا، فكان الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون يتلاعب به كيفما شاء ويوهمه بالصداقة الشخصية ويغدق عليه الوعود السياسية والاقتصادية والعسكرية من دون أن يمكنه من أي منها، بينما حصل منه على ما لم يكن يحلم به. كذلك كان الحال مع الرئيس الروسي الأسبق ميخائيل جورباتشوف الذي أدهش الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب ‘بكرم’ عطاياه السياسية والاقتصادية والعسكرية. مع فلاديمير بوتين الأمر اختلف، فالرجل يفكر بنفس طريقتهم البراغماتية، فهو صعب المراس، لا يقدم تنازلات فيما يخص مصالح بلاده من دون أن يحصل على مقابل. فروسيا بوتين ربما تكون قد تفوقت على مهد الفلسفة البراغماتية (الولايات المتحدة) وآبائها الروحيين، حتى صح القول إن التلميذ تفوق على أستاذه، حيث لطالما تعامل الأمريكيون مع الروس بوحي من هذه المدرسة النفعية وتطبيقاتها الصارمة. سوف يكون من الصعب، من الناحية الموضوعية، الحكم في هذه المرحلة على الرئيس الأمريكي باراك أوباما، وعلى مدى تطابق وعوده مع ممارساته، على الرغم من الإشارات السلبية الصادرة عنه حتى الآن. فهو واقع تحت ضغط نائبه جون بايدن وأنصاره داخل حزبه الحاكم وداخل إدارته في شأن الملف النووي الإيراني، وهو يتعرض لضغط مماثل من جانب اللوبي الصهيوني في واشنطن للإذعان لحكومة نتنياهو وسياستها الاستيطانية التوسعية. وفي النهاية سيجد نفسه محاصراً وغير قادر على الحركة إلا بما تسمح به ‘المؤسسة’، وفي الاتجاه الذي تحدده له.
صحيفة الوطن
25 يوليو 2009