عمليات تفجير القضايا التي هي ليست قضايا وإشغال الرأي العام بها، مع ترك القضايا المتفجرة الكبرى الحقيقية، هي مثل عملية طفولية بتفجير المفرقعات وحرق الأقدام السائرة ولفت الانتباه لجوانب عرضية مع خدش الأجسام وتفجير الدم.
إعلام التهويش هذا نشأ مع فراغ الساحة العربية من مركز قومي تحرري ديمقراطي يلملمُ الفسيفساءَ المناضلة التي تريد التغيير، وقد تسلمتْ مدنَ الكفاح هذه ومراكز التوحيد أنظمة موالية للغرب في سياسته الخارجية، وليس في الانتماء إلى تياراته الديمقراطية الداخلية العميقة، فعبرتْ عن تجريبية فئات بيروقراطية تراكمت في أيديها الثروات النفطية خاصة أو السياحية المنبثقة عنها من دون أن يكون لها مشروع حضاري تحويلي لحياة الجمهور المحلي في كل بلد، أو العربي عموماً، فجاء إعلامها باهتاً وفقدت ذلك الدور التجميعي القوي.
كانت الأنظمة التحررية لها مشروع، وقد شكلت جمهورا وطنيا في كل بلد، وجمهورا قوميا على امتداد الساحة العريضة، فكان إعلامها موجها للحفر في هذه الصراعات، رغم إنه كان إعلاما عاطفيا حماسيا، وربما كانت هذه الحماسية العاطفية هي التي صارت من مصادر إعلام التشويش الراهن، الذي ركز في شكل الصراع بين العرب والغرب، بشكل كاريكاتيري، وحمل كذلك سيوف دونكيشوت، وصياح أحمد سعيد وعدة الرقص البلدي.
وترافق هذا الإعلام مع تدفق الجمهور الطائفي الذي حل مكان الجمهور القومي السائد سابقاً، وهو جمهورٌ تم حبسه في خندقين أساسيين، ولم يعدْ قادراً على الخروج من هذا الحبس الثنائي، وهو أمرٌ يشير إلى غياب الأنظمة القومية التحررية وحدوث فراغ، حاولت الجماعاتُ والأنظمة الطائفية أن تملأه لكن من دون جدوى.
إعلامُ الشعاراتِ والهياج العاطفي العصبي كان موجوداً في السابق معتمداً فقط على هذه القشرة الرقيقة من طبقة الوعي الكبيرة غير المستخدمة، لكن كانت ثمة قضية كبرى وفي اتجاه تحولي مهم له مستقبل ممكن، وسوف يظل رافداً للتحولات القادمة مهما تكن سلبياته.
ولكن في إعلام التشويش الراهن ليست ثمة قضية مستقبلية يمكن مراكمة إنجازاتها، وفاعلياتها النضالية، لتحقيق سيادة عربية إسلامية إنسانية ديمقراطية تقدمية في المنطقة، حيث لا تتوحد فقاقيع هذا الإعلام التهويشي مع الرؤى العميقة الصادرة عن قوى الأغلبية الشعبية المرتبطة بالأرض.
إن موارد النفط وحدها لا تستطيع أن تكون منابر إعلامية، في ظل تحكم قوى لا يعنيها تنامي قوى النضال والديمقراطية العربية، ولا يهمها أن تسلط الأضواء على مدننا الملوثة وأريافنا الفقيرة الجائعة، لا يعنيها أن نجدَ حلولاً للتيارات السياسية وأسباب نخبويتها وانعزالها وأميتها. لا تعنيها أزمات الاسكان والبطالة ومؤسسات الاقتصاد المغيّبة في العتمة التحليلية الكاشفة والعائشة في البهرجة الإعلامية الخارجية والردح الإعلاني.
أي إن هذا الإعلام الطالع من فانوس النفط السحري الذي أخرجَ العفاريتَ النائمة، ليس جزءًا من تراكم الجراح والأصوات العربية، ومن ثقافتنا المضنية عبر عقود من المجابهة مع الواقع وإحداث التراكمات الصعبة، بل هو إعلام بلا قضية وإن ادعى انه كل القضية، ومن هنا فهو يعتمد على السماسرة والأبواق العنيفة التي ليس لها انتماء إلا إلى المال.
فركز هذا الإعلام في التشويش والصيد في الماء العكر وتفجير الخلافات بين الدول العربية والإسلامية وتمزيق قوى النضال العربية، وإدامة ذهنية المحورين الطائفيين المريضة، بأسلوب التفجيرات “الثورية”، حيث لا توجد سوى شقشقات اللغة الفارغة، والأصوات الحادة، وعراك الديوك اللفظي اللعابي الذي يكاد أن يصل إلى المصارعة الحرة، ومحاولات الإثارة الرخيصة.
هذا الإعلام لم ينتج من مواقع اجتماعية ذات ثراء ثقافي عميق، بل ربما حتى ان أهالي هذه البلدان التي ينطلق منها هذا الإعلام المبهر الأجوف، ترفضه وتريد تغييره لأنه لا يمثلها، بل هو فقاقيع مستوردة، ونبتاتٌ اصطناعية، لا يعكس تجاربها ولا يعرض مشكلاتها وأصواتها.
لكن الإمكانيات المالية تقوم بتكريسه وباستدعاء رموز كان لها وزنها في تاريخ المنطقة السياسي، لاستحضار ما مات فيها، وما عجزت عن تطويره عبر التراكم النقدي الداخلي، في منظماتها وبلدانها، لتعرض كوابيسها وليس أحلامها الجميلة السابقة، وتكرر الشعارات الشمولية نفسها التي فات زمنها وأورثتنا كل الهزائم، بسبب أنها لم تعد داخل التاريخ السياسي في هذه المنظمات والبلدان، لكنها تريد أن تبقى بأي شكل بعد أن صارت نفايات سياسية، تقوم هذه الأجهزة الاعلامية بثرائها العريض المقتطع من ميزانيات الناس، بسحبها من تلك الأمكنة المجهولة ومن عوالم الشيخوخة السياسية وفقد الذاكرة الوطنية، لتقدمها فوق المسرح بكل الديكورات المبهرة ولغات الزفة الإعلامية، لكي تفجر الساحة بكل الأمراض الجديدة في ساحة مريضة ممزقة تحت العناية المركزة. فتركز في الموتى وملفات الموت وأزمنة شاخ الوعي فيها واهترأت ملفاتها من كثرة التصفح والتكرار.
والأهم لهذه المراكز الإعلامية ألا توسع مجرى النضال العربي الديمقراطي وبناء عمارة العقلانية العربية ذات الأضواء المسلطة على سرقات المال العام وكنوز قارون الضائعة، وأن يتم تحويل الهامشي إلى رئيسي والرئيسي إلى هامشي، ولا أن تسلط الأنوار على الثورات التي تجري أمام أعينها الإعلامية المفتوحة على العماء وعلى الفراغ، وتديرها نحو الملاكمات الشخصية والسفاسف التاريخية، لصرف الانتباه عن تهافت الأنظمة والحركات الطائفية، وأنها لا تصنع تاريخاً بل لابد أن يتجاوزها التاريخ.
صحيفة اخبار الخليج
24 يوليو 2009