لابد أن تكون الديمقراطية في الشرق عملية صعبة تاريخية مؤلمة، طويلة، فيكون لها متعرجات وهبوط والتفافات، مثل قطار يسير في أرض غير صناعية، وغير ممهدة، يصل أحياناً ولا يصل في أحيان أخرى.
وإذا كانت الديمقراطية هي شأن استثنائي في تاريخ الشرق فإن العسكر لهم تاريخ غير استثنائي ومهيمن.
وقد كانت كل القبائل والدول السابقة هي دول عسكرية، لأن القبائل كانت مسلحة، وتفرض أنظمة عسكرية، فالتاريخ السابق هو جذور للجيوش العصرية، التي ليستْ هي سوى القبائل والجماعات المسلحة نفسها ولكن صارت منظمة ومشكلة بالأنظمة والأسلحة الحديثة.
وفي المرحلة الليبرالية العربية والإسلامية المبكرة في التاريخ الحديث حاولت قوى التجار والمثقفين أن تشكل أنظمة ديمقراطية مستوحاة من الغرب، حين كانت الجيوش الغربية مسيطرة، فأعطتها بعض المساحة للتعبير ولكنس المخلفات التقليدية الأكثر ضرراً على التطور، لكن الجيوش العربية ظهرت من جديد، واستعادت القبائل والقوى القروية الإقطاعية نفوذها من خلال الجيوش التي انضم إليها ابناؤها، وراحت تزيح النفوذ الليبرالي الديمقراطي والنفوذ الاستعماري معاً.
فقد جمعت الجيوش نفوذ القوى القديمة وألبستها عباءة العداء للاستعمار، ولكن ذلك كان من جانب معين ضربة للتطور الديمقراطي، ولعدم تراكم وتوسع الحريات، وبقاء مجمعات التخلف في الريف والحياة الاجتماعية وفي الحياة الفكرية التي وضعت على أفواهها أشرطة عسكرية مانعة للتغيير والنقد.
وفي المرحلة الليبرالية الجديدة التي نعيشها الآن بعد أن استنفدت الأنظمة العسكرية نفسها وطورت أشياء قليلة وخربت أشياء كثيرة، ولم يبق منها إلا المتردية والنطيحة، وما سمح الاستعمار والتخلف، بدأ مجيء العسكر لكن من خلال ثغرات ونوافذ الأنظمة الحالية المترجرجة بين الليبرالية والشمولية.
ظهر العسكر في تركيا بشكل مختلف، ليمنعوا الانزلاق نحو الأنظمة الدينية الشمولية، ووضعوا إطاراً للحداثة، ولعدم التجارة في الدين على حساب النهضة، لكن لدينا قفزَ العسكر من ثغرات الأنظمة المتكونة حديثاً غير الحاسمة في انتمائها الى الوطنية والي الحداثة والعلمانية والمستمرة في التجارة في الدين.
في دول تسلل العسكر عبر عودة خدماتهم الحربية وتحول الجيش إلى الأداة الرئيسية للنظام في مجابهة عدو غاشم، ولم تستطع القوى المدنية التي أحضرتهم وقوت ساعدهم أن تعيدهم مرة أخرى للثكنات ليؤدوا واجبهم في التطور العسكري بل استغلوا مواقعهم العسكرية والتصنيعية الحربية ليفرضوا أنفسهم على الاقتصاد والإعلام والسياسة.
وهذا يعود للاضطراب في تشكل الأنظمة الجديدة، وعدم تطورها من خلال النسيج المدني السابق، وفرض تشكيلات غير عسكرية نظامية وميليشيات وأحزاب على الجيوش النظامية!
هي من قبيل عمليات إدخال الغوغاء لضرب التقاليد العسكرية النظامية الوطنية وكسر الانضباط ولكن يقوم بها الزعماءُ والضباط الكبار في البلد المعني، مثل الحرس الثوري في الصين فيما سُمي الثورة الثقافية أو مثل عزل الجيش الإيراني الوطني وترفيع الحرس الثوري كجماعات من المتاجرين في الأجهزة العسكرية والمواد الاقتصادية، واللجان “الثورية” في ليبيا وخزعبلات ثورة الانقاذ السودانية التي جعلتْ البلدَ كله يهرول عالمياً من أجل أن يُنقذ.
هي عملياتٌ تشعر بالخوف من الجيش وتتمرد عليه عسكريا لإضعاف قوى في السلطات لا تقبل المغامرات السياسية، أو قوى في المجتمع المدني لها آراء مختلفة عن المسار السائد المضر، أو لإضعاف الجيش نفسه، فالأنظمة تشعر بأنها هشة وتخاف من القوة المنظمة الوحيدة والقوية وهي الجيش.
ويحدث العكس أحياناً حين تقوم القوى السياسية المدنية بتطوير النظام الاجتماعي وتعمل على تغييره من السلبيات المتجذرة فيه، وتخلق تعددية حزبية وفكرية، لكن القوى العسكرية والتقليدية في الجيش تتحالف لضرب هذه التجربة خوفاً على مصالحها التي سوف يجهز عليها مثل هذا التطور.
فتلجأ الى الانقلاب أو إلى تزوير الانتخابات أو إلى غيرهما من الوسائل بحيث تبقى وتتاجر في حياة المواطنين.
وهي ترفع الشعارات البائدة لشحن مشاعر الشعب كمحاربة الفقر وتحرير فلسطين من الصهيونية، وهي لا تريد سوى تركيز السلطة في يدها، ووقف المسار الديمقراطي العميق في البلد.
وهذه كلها تحدث لعدم تجذر المسار الديمقراطي الهش في البلد، ولتفكك العلاقات الوحدوية بين قوى المعارضة، وتجذر القوى الشمولية في أجهزة الحكم خاصة في الأدوات العسكرية المختلفة، مع غياب حاضنة ديمقراطية دستورية عريقة.
هبوط العسكر بالمظلات فوق التجارب الديمقراطية وتضييع ثروات ضخمة وإدخال البلدان في حروب طاحنة مع دول أخرى، وظهور مجانين في هذه التجارب، لم يبق شيء لم يدعوه لأنفسهم سوى النبوة والألوهية، رغم تجرؤ بعضهم على مناوشة المقدسات والتدخل في حيثياتها، كل هذا مثل خراباً واسعاً وهدراً لإمكانيات أمة كبيرة حولوها إلى خرائب.
صحيفة اخبار الخليج
23 يوليو 2009