حينما قمت بزيارة اعلامية استطلاعية للسودان في أواخر تسعينيات القرن الماضي بدعوة من وزارة الطاقة أتذكر كان من الانطباعات التي خرجت بها من تلك الزيارة ودونتها في هذه الزاوية ان ثمة مرونة نسبية إلى حد ما لدى النظام السياسي العسكري السوداني القائم الذي يعد نفسه نظاما “اسلاميا” في الموقف من الموسيقى والأغاني وكذلك الموقف من الحريات الشخصية للمرأة وان بشكل ضئيل محدود، وتحديدا فيما يتعلق بملابسها مادامت على درجة معقولة من الاحتشام حتى لو لم تكن ذات ملابس احتشامية متشددة، وكنت أتوهم حينها بأن هذه “المرونة” على محدوديتها لربما تكون أفضل حالا، ولو بشكل نسبي، من دول اخرى تحكم باسم “الاسلام” كإيران، لكن ثبت بما لا يدع مجالا للشك ان هذه الأخيرة حتى بالرغم مما تجرده من حملات موسمية على الفتيات اللائي لا يراعين ضوابط الحجاب ولباس الحشمة حسب المقاييس التي فرضها الحكام الملالي في طهران أكثر مرونة وان تكن محدودة في هامش الحرية الشخصية فيما يتعلق تحديدا بملابس المرأة.
وعلى سبيل المثال لا الحصر فان لقطات عديدة برزت في صور المظاهرات والاحتجاجات الصاخبة ضد نتائج الانتخابات الرئيسية الأخيرة تظهر فيها فتيات بملابس شبه عصرية وبغطاءات رأس “شارب” تكشف نصف شعر رؤوسهن ويمشين خلف أو بجوار تقريبا ليس المرشح الاصلاحي مير حسين الموسوي فحسب بل على مقربة أو خلف رجل الدين المعمم الشيخ مهدي كروبي. أكثر من ذلك فان بعض مثل هذه النماذج النسائية وجدناها وان على نحو محدود جدا في المسيرات المضادة المؤيدة للرئيس المحافظ محمود أحمدي نجاد المطعون في شرعية نجاحه.
وبات واضحا ان الجميع، حكومة ومرشحين، مشغولون حتى النخاع بالمعركة السياسية الانتخابية أكثر من انشغالهم بهذه المعركة الدينية “الاخلاقية، حتى لو تعلقت بالأمر بالمعروف والنهي عن “المنكر”، لكن ذلك لا يعني ان النظام قد تخلى نهائيا عن حملات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المتعلقة بملابس المرأة “الاسلامي”، بل فكما هو معروف فانه يجرد مثل هذه الحملات على نحو موسمي اختياري كلما شعر بحاجة إلى الهاء الشعب بقضية هامشية داخلية ما حينما تتأزم الأوضاع المعيشية والاقتصادية وقضاياه السياسية الداخلية والخارجية.
ويمكن القول ان الخرطوم البشيرية هي الأخرى عادة ما تلجأ إلى مثل هذا الاسلوب من الحملات على الفتيات في الشارع تبعا لمزاج السلطة، أي حيثما واجهت قضايا داخلية أو خارجية معقدة متفجرة، كالأزمة الاقتصادية، وكقضية دارفور، وكقضية اصدار محكمة الجنايات الدولية مذكرة ملاحقة قضائية باعتقال الرئيس، ولعل آخر واقعة من ممارسات السلطة السودانية في التضييق على الحريات الشخصية للنساء الحادثة المتعلقة بالناشطة السودانية السياسية الصحفية المعروفة لبنى الحسين التي باغتتها سلطات الأمن السودانية ومجموعة من الفتيات الاخريات بمداهمة مطعم كن يحتفلن فيه بزواج احدى معارفهن بحجة ظهورهن بملابس “غير لائقة” وتتنافى مع قواعد النظام العام، وقد تم اعتقالها مع 12 فتاة وتم جلد عشر منهن عشر جلدات في قسم الشرطة، ووجه إلى الصحفية لبنى واثنتين معها الاتهام بارتكابهن ما يسيء إلى الآداب العامة لارتدائهن لباسا “غير لائق” وبالتالي يواجهن الآن محكمة جنائية قد تحكم بجلدهن طبقا للقانون الجنائي السوداني 40 جلدة.
غني عن القول ان الشعب السوداني من أكثر الشعوب العربية تدينا ومحافظة حتى ان الحزب الشيوعي السوداني هو أكثر الاحزاب الشيوعية العربية على الاطلاق يضم في غالبية صفوفه أعضاء مؤمنين يؤدون فروض الدين كافة، بما في ذلك تأدية الصلوات الخمس في مواقيتها وكذا الحال بما عرف عن قياداته، وقد عرف عن أشهر عضو قيادية قديمة في الحزب وفي الحركة النسائية السودانية، الا هي فاطمة إبراهيم ارملة شهيد الحركة النقابية الشفيع الشيخ، ارتداؤها اللباس الشعبي النسائي المحتشم والتزامها واحترام القيم والعادات الدينية، وبالتالي فهل يتصور ان شعبا هكذا هي تقاليده وجذور المحافظة المتغلغلة في تربته ان تنبري فيما بين صفوفه نسوة قادرات على تحدي السلطة والمجتمع معا ويعرضن انفسهن لفقدان سمعتهن وسمعة عائلاتهن ودخولهن في عزلة اختيارية؟
وإذا ما تأملنا وامعنا النظر جيدا في اللباس الذي ترتديه الناشطة السياسية الصحفية لبنى الحسين وهي شابة في مقتبل العمر تتمتع بقدر من الجمال اللافت وبعينين يشع منهما الذكاء والتحدي في آن معا، فان لباسها الذي أقامت عليه سلطات الخرطوم “الاسلامية” الدنيا ولم تقعدها باعتباره يخدش “الحياء” ويتنافى مع الشريعة الاسلامية وان كان ليس بالمواصفات والمعايير الدينية المعروفة الموغلة في التشدد والتزمت الا انه لباس وسطي معتدل الاحتشام لا بل لربما عد في مجتمعات عربية اخرى لباسا محافظا. ومن الواضح ان لباس لبنى ليس سوى قميص عثمان لتصفية حسابات النظام السياسية معها كناشطة صحفية وسياسية لا تروق آراؤها ومواقفها المعارضة للنظام.
اما الاخريات اللواتي القي القبض عليهن بالتهمة ذاتها فلسن سوى كباش فداء للتمويه على دوافع الانتقام من الصحفية لبنى التي اساءت السلطات ايما اساءة إلى سمعتها وسمعة وشرف عائلتها من دون مسوغ عقلاني.
وإذ تعرضت مجموعة من الحاضرات، وبينهن مسيحيات من الجنوب، لتعذيب وحشي فظ تمثل في جلدهن بمركز الشرطة، وإذ تواجه لبنى ورفيقاتها ملاحقة قضائية قد تفضي بالحكم على كل منهن 40 جلدة فانه من المؤسف حقا ألا نسمع حركة احتجاج وتضامن قويين على الصعيدين المحلي والعربي لا من قبل جمعيات حقوق الانسان ولا من قبل الجمعيات النسائية والصحفية مع قضية هؤلاء الفتيات السودانيات المظلومات اللائي تواجه اجسادهن البضة مخاطر جدية لتعرضها للجلد.
صحيفة اخبار الخليج
22 يوليو 2009