لا أحد يعلم من العرب كافة إلى متى سيستمر هذا المسلسل من العبث الجنوني بقضية الشعب الفلسطيني على أيدي قادته وهو المسلسل الذي مازالت تتطور حلقاته الهزلية الدامية حثيثا من وضع كارثي سيئ إلى وضع كارثي أسوأ، فيما تتواصل تباعا بالتوازي مع مسلسل هذا الصراع على الكراسي والسلطة في الضفة والقطاع أفواج وقوافل المتضامنين مع غزة من رموز الشعوب الأخرى غير العربية وغير الإسلامية من أوروبا وقارات أخرى، وذلك بغية كسر الحصار الإسرائيلي الاجرامي على شعبها وفضح ما ارتكبه من جرائم ابادة بحق الانسانية خلال عدوانه الوحشي الهمجي عليها خلال شهري ديسمبر ويناير الماضيين.
وبينما ينتاب المهمومين والموجعين بالقضية الفلسطينية من العرب كافة من الخليج إلى المحيط الحياء والخجل الشديدان الممزوجان بالألم وهم يتابعون هذا المسلسل الانتحاري المجنون المدمر للقضية الفلسطينية على أيدي قادة حركة النضال الفلسطيني المفترضين، فيما أفواج وقوافل المتضامين عن محنة شعبهم تتواصل، فان المرء لتنتابه الدهشة والذهول حقا كيف لا يعتري هؤلاء القادة أي نقطة حياء أو خجل من التهالك والتهافت على السلطة والكراسي، تارة بين الفصيلين الرئيسيين المتناحرين “فتح” وسلطتها الوطنية من جهة وحركة حماس من جهة أخرى، وطورا آخر بتعمق الانقسامات داخل الفصيل الأول المهيمن على تلك السلطة في الوقت الذي يترك فيه مناضلون امميون شرفاء قدموا من أقاصي الدنيا البعيدة بلدانهم تاركين عوائلهم مغتربين عن أوطانهم قاطعين المسافات الشاسعة ومضحين بوقتهم بالسفر لفترة طويلة من أجل القضية الفلسطينية التي يتحدث أولئك القادة ويتقاتلون فيما بينهم باسمها، متوهمين بأن الشعوب العربية التي سئمت وملت وقرفت اشد السأم والملل والقرف صراعاتهم العبثية المديدة ستتفهم وتنحاز إلى أي منهم من دون الآخر في هذا الصراع العبثي الدامي المدمر الذي قدم ومازال يقدم خدمة تاريخية مجانية لم يسبق لها مثيل لإسرائيل والحركة الصهيونية والامبريالية الأمريكية والأنظمة العربية المتواطئة معها لتبرر تخاذلها عن نصرة قضية العرب المركزية.
وحتى كتابة هذه السطور، وما لم تطرأ حلقة جديدة من حلقات هذا المسلسل العبثي المجنون فلعل آخر حلقة فيه هي القنبلة المفاجأة التي فجرها مؤخرا العضو القيادي في حركة “فتح” وأحد مؤسسيها التاريخيين فاروق القدومي باتهامه رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس والنائب في “فتح” محمد دحلان بالتواطؤ مع رئيس الوزراء الاسرائيلي الاسبق ارئيل شارون في اغتيال الرئيس الفلسطيني السابق ياسر عرفات بالسم، واستند القدومي في قنبلته المفاجأة إلى وثائق محاضر اعتبرها كافية ودامغة لإدانة عباس ودحلان.
لسنا هنا بطبيعة الحال بصدد تأكيد أو نفي الاتهام الذي وجهه القدومي، بما في ذلك ما استند إليه ما بحوزته من وثائق، فذلك متروك للتاريخ أو ما ستفصح عنه الايام المقبلة، إلا ان الأمانة التاريخية الموضوعية تقتضي القول انه حتى لو ثبتت تهمة أبواللطف – القنبلة – فإن نهج الاغتيالات والتصفيات داخل قيادات الفصائل الفلسطينية، وعلى الأخص في “فتح” كبرى هذه الفصائل المهيمنة على منظمة التحرير الفلسطينية، ثم على السلطة الوطنية، ليس غريبا، بل هو نهج معروف لا يختلف على حقيقته اثنان حيث راح ضحيته ثلة من خيرة كوادر “فتح” سواء ممن ثبت اغتيالهم أو تصفيتهم على أيدي مخابرات وأجهزة هذا الفصيل، “فتح”، ابان المقاومة المسلحة في الاردن ولبنان (1968-1982)، ثم داخل الضفة والقطاع بعد اتفاقيات أوسلو (عام 1993)، ام ممن اتهمت اسرائيل باغتيالهم فيما يثور الجدل وتتضارب الروايات حول مدى حقيقة وجود بصمات فلسطينية “فتحاوية” في عملية اغتيالاتهم متورطة فيها عناصر من أعلى مستويات القيادة (منهم على سبيل المثال الشهيد أبوإياد)..
نقول: لسنا هنا بصدد تأكيد أو نفي اتهام القدومي لعباس ودحلان بالتواطؤ مع إسرائيل في اغتيال عرفات، لكن ما نحن بصدده بمناسبة هذه الحلقة الجديدة من مسلسل العبث التدميري الذاتي الانتحاري المجنون للقضية الفلسطينية على أيدي قادتها تأكيد حقيقتين نراهما على درجة من الخطورة والأهمية:
الأولى: إن انعقاد حركة “فتح” المؤتمر العام السادس في مدينة لحم لن يقيل بأي حال من الاحوال كبرى الفصائل الوطنية الفلسطينية من عثرتها التاريخية الطويلة في ظل تسلط زمرة من قدماء ومخضرمي قادتها الفاسدين المراهنين على ورقة التفاوض مع اسرائيل وليس شيئا سواها في ظل موازين تزداد اختلالا لصالح العدو الاسرائيلي، بل ان مؤتمرا يعقد في هذه المدينة تحت حراب المحتل وتحت هيمنة مؤسسات وأجهزة السلطة الفلسطينية الأمنية والادارية التي تهيمن عليها قيادات فتح الحالية الفاسدة التي فرغت هذا الفصيل التاريخي المناضل من أي صفة نضالية حقة لن يسفر عنه سوى تكريس ومفاقمة الانقسام في هذا الفصيل وزيادته ضعضعة ووهنا، ناهيك عما سيسفر عنه من قرارات وبيانات متوقعة تسدل الستار على هوية هذا الفصيل النضالية الوطنية وتكرس الخط الرسمي لقيادة عباس في السلطة الفلسطينية المتماهية مع رغبات اسرائيل وامريكا وبعض الانظمة العربية.
الحقيقة الثانية: انه بصرف النظر عن السياسات والخط الاعلامي المثير للجدل الذي تتبناه قناة “الجزيرة” فان اغلاق مكتبها في رام الله هو بمثابة تهور استبدادي يعود بالوبال على مصالح القضية الفلسطينية اعلاميا وذلك بالنظر لما تقدمه هذه القناة ذات الامكانيات الضخمة من خدمات اعلامية مهمة لا نظير لها في كل القنوات العربية من خلال التغطيات الموسعة الدقيقة والمفصلة لفعاليات وانشطة نضال الشعب داخل “اراضي 67″ و”اراضي 48” وما يتعرض له من قمع، فضلا عن اخبار على مدار الساعة طازجة لأي أحداث طارئة، ناهيك عما تقدمه القناة من حوارات وبرامج سياسية وتاريخية وثقافية، فمهما كان مآخذ السلطة على القناة فانه ما كان ينبغي لها ان تضيع على قضية شعبها لو تحلت بالحكمة هذا السلاح الاعلامي العربي الجبار الذي تملكة “الجزيرة” في خدمة القضية الفلسطينية لمجرد ارضاء نزوات قيادتها الشمولية وضيقها بالرأي الآخر أو بالأخبار التي لا تروق لها.
صحيفة اخبار الخليج
20 يوليو 2009