لعل أحداً من الدينيين لم يصل إلى مثل هذه الرؤية التي طرحها الشيخ رفسنجاني في خطبة الجمعة الماضية، من حيث اللغة التي تجمع ما بين البساطة الشعبية وعمق المفكرين، ما بين الإرهاف السياسي الحاد اليومي والرؤية البعيدة النظر، وما بين جذور التاريخ والعصر، عبر هذه الومضات التعبيرية الدقيقة السياسية التي تمشي في حقول من الألغام.
إنه باعتباره مذهبيا إسلاميا منتميا للفقه الاثني عشري ساق حجج التطور الديمقراطي من مفردات المذهب،عبر الإسناد للنبوة والإمامة، فطرح ذلك الجديد الذي لم يسبقه إليه أحدٌ في هذا، حيث جعل النبوة حواراً بينها وبين الناس، حيث تصغي لمطالبهم وتقدم لهم ثروة المعرفة، الهادفة جميعها لنقلهم لمستوى مختلف من الحياة.
وحين لم تحظ الإمامة بإجماع أهل الحل والعقد، في ذلك العصر السلفي العظيم، ونأى الإمام عن الناس معتزلاً فترة، كان خيار الديمقراطية والقبول الواسع للقيادة هو محك الإمامة والخلافة.
لعل أحداً لم يجرؤ على الوصول إلى هذه الرؤية الجامعة بين عصر الخلفاء الراشدين وعصرنا، خاصة أنها تطرح أمام الجمهور الغفير، وتعرضُ تاريخاً مختلفاً عليه لحد المعارك الضارية، لكن الصياغة التعبيرية الماهرة، والجمع بين القداسة والحداثة، لن يصل إليهما سوى رجل بلغ من الحكمة والحنكة مبلغاً عظيماً.
ولهذا كان الشيخ رفسنجاني القائد الذي عاش مركب الجمهورية الإيرانية السائر في بحار متلاطمة، هو الشخصية القادرة على وضع التاريخ والعصر في ضفيرة واحدة، التي تجمع بين تطور الوطن وتقدمه.
وكان دائماً جامعاً بين التقليد والمرونة العصرية، موجهاً الأضداد القصية نحو موقف وسطي، يتيح التطور، ويجمع الفرقاء، لأجل نظام ديني محافظ يتطور بشكل تدريجي مواكباً للعصر.
ولعل رفسنجاني قد وصل في خضم الأزمة السياسية التي تعصف ببلده، إلى تعميق لتلك الرؤية التي كانت حيادية دائماً، متوازنة، لكن تلك الصيغة السابقة لم تعد ممكنة.
إن صيغة التوازن بين العصر والتقليد الديني المحافظ، بين الديمقراطية ورؤية ولاية الفقيه، بين مصالح الشعب وسيطرة طبقة الموظفين والعسكريين، إن هذه الصيغة لم تعد صالحة، ولابد من تطويرها.
وفي لمحة ذكية جمع بين الماضي النضالي للمذهب وسيادة الشعب، لقد أوصل نضال الجمهور الإيراني الأطروحات الدينية إلى لحظة الاهتزاز، ولاحت لحظة إما التوجه فيها للصدام الكلي وتحطيم النظام، وإما العنف الشامل ضد كل حراك عقلاني وتحديثي.
وقد ذاق رفسنجاني من عزلته ومن إبعاده عن مراكز القرار الحقيقية، ومن صعود طارئين متاجرين، بعض ما ذاقه الأئمة السابقون من جور ومن تقزيم على أيدي الصغار. فعانى معهم ماضيهم وتراثهم الحي المستمر، ووصل إلى خلاصة هي خلاصة تجارب أجيال، تومضُ في كلمة مشعة هي ولاية الشعب.
وحتى لا يكون فقه الفقيه أداة لإضعاف الدين والمذهب، وتصويره بما ليس فيه، وإتخاذه أداة لمآرب أخرى، تتركُ الأهدافَ الحقيقية جانباً، فقد طرح ولاية الشعب، فكان الشعبُ حاضراً في خطبتهِ كما لم يحضرْ شيءٌ آخر، فغدا هو نبض الشعب وقد صار فكرا دينيا، فتألق الشعب المحاصر في درر بيانه، وتحرر في أعلى مكانة هي مكانة القائد المتواصل النضال دينا ودنيا.
وقد سيج ولاية الشعب بالعديد من الشروط لكي لا تصير هي الأخرى فوضى ومتاجرة في الناس باسم الديمقراطية، ووضعها بشكل متدرج بحيث تنبثق من الجمع بين تيارات النظام والمجتمع المختلفة، في حوار سياسي مستمر، بعيداً عن هياج الشارع وقمع النظام.
وهذا التعبير يشير لمرحلة جديدة من تطور الجمهورية الإيرانية، توضع فيه السلطات بين أيدي الناس، بحيث يتجنبون مخاطر حكم الأقلية.
وما تواجهه إيران هو حكم الأقلية العسكرية ومشروعاتها، وهو أمرٌ خطر على الشعب الإيراني نفسه وعلى جيرانه بدرجة خاصة، الذين سيكونون أكثر المتضررين من مثل هذا النهج، إذا تحول إلى حروب كما عانينا مزايدات الأنظمة القومية العسكرية باسم الأوطان وتحرير فلسطين، التي تتحول إلى كوارث من دون أن تتحرر فلسطين أو تنعم الشعوب بتقدم وفير.
لم يصل الشيخ رفسنجاني إلى هذه النقطة الدقيقة الخطرة وتركها عامة، فنقلُ السلطة من طرف عسكري لطرف مدني، أمر صعب ومحفوف بالمخاطر، كذلك فإن السلطة الدينية الممسكة بكلمة الفصل بين الاتجاهين، هي القادرة على علو طرف من دون آخر، فتوجه الشيخ نحو تحشيد الأغلبية للخيار المدني الديمقراطي، ولهذا طالب بجعل المتظاهرين ليسوا محل مطاردة بل محل تكريم، فكأنه يوجه الأمور بخلاف ما يجري حاليا وبشكل مضاد.
إن المؤسسات العسكرية والصناعات الحربية قد التهمت القيادات المدنية وقد كانت هي التي وضعت الأساس لتلك المؤسسات، بسبب مخاطر حروب التدخل والتهديدات الأجنبية من دون أن تنسى حاجات الشعب، فجاء العسكر والتهموا كل شيء.
صحيفة اخبار الخليج
20 يوليو 2009