إلى ما قبل الأزمة المالية والاقتصادية وعلى مدى العقود التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت الولايات المتحدة تضطلع بدور الرافعة الرئيسية للطلب الكلي العالمي على السلع والخدمات. هذا الدور كان مكلفاً جداً للولايات المتحدة كما نعلم، حيث انعكس ذلك سلباً على ميزانها التجاري وميزان مدفوعاتها وترتيباً على أوضاع موازنتها القومية. أما وقد انفجر هذا اللاتوازن بين المدفوعات والمقبوضات العالمية في وجه الاقتصاد الأمريكي، وتحول الحديث في واشنطن من الحرية الاقتصادية إلى الحمائية تحت شعار ‘اشتر المنتج الأمريكي’، بعد أن أغرقت العجوزات مؤسسات الدولة وأصيب المجتمع بداء الإعسار المالي، لحد تفاوض النقابات مع أرباب العمل على القبول بخفض أجور عمالها وموظفيها مقابل عدم تسريحهم، كما حدث الشهر الماضي عندما اتفق اتحاد العاملين في قطاع النشر مع أرباب العمل على خفض الأجور بنسبة 12٪ مقابل إلغاء خطة التسريح. فضلاً عن انتشار ظاهرة الإجازات الإجبارية غير المدفوعة منذ شهر أكتوبر الماضي. أما وقد حدث ذلك، فإنه من الطبيعي أن تثار مسألة الرافعة البديلة أو الموازية لرافعة الطلب الأمريكية. الأنظار بهذا الصدد تتجه نحو الآسيويين كمرشّحين للحلول محل الأمريكيين في دفع عجلة النمو العالمي من خلال دالّة الاستهلاك. لماذا؟.. لأن الاقتصادات الآسيوية الناهضة تحقق عودة سريعة لمعدلات نموها ما قبل الأزمة بصورة أعلى مما كان متوقعاً. فبينما واصل الإنتاج الصناعي الأمريكي هبوطه في شهر مايو الماضي، فإن الاقتصاد الصيني وبقية الاقتصادات الآسيوية الناهضة حققت معدلات نمو في إجمالي ناتجها المحلي بواقع 7٪ سنوياً في الربع الثاني من العام الجاري بحسب تقديرات ‘جيه بي مورجان’. وهذا يعني أن الاقتصاديات الآسيوية الناهضة تأثرت جزئياً بتراجع صادراتها، ذلك أن تراجع الطلب المحلي لديها كان أهم من تراجع صادراتها الصافية، حيث أدى ارتفاع أسعار الغذاء والوقود في النصف الأول من عام 2008 إلى تراجع هوامش الأرباح والطاقة الإنفاقية، والتي ضاعف من تأثيراتها السلبية السياسات النقدية المتشددة الرامية إلى كبح جماح التضخم. إن تعافي الإنتاج الصناعي يعبر عن انفراج أزمة المخزون لدى المنتجين وظهور مفعول جرعات التحفيز الحكومية. إلا أن هذين العاملين سرعان ما سيخبوان، ومع بقاء أسواق التصدير في الدول المتقدمة ضعيفة، لا يبقى سوى الرهان على حدوث نقلة في الإنفاق الاستهلاكي في هذه البلدان الآسيوية الناهضة. والحال أن ‘الشهية’ الاستهلاكية (إن جاز التعبير) تختلف من بلد آسيوي إلى آخر، وإن عُرف عن شعوب هذا الإقليم ميله للادخار أكثر من الاستهلاك. فلقد ارتفع معدل الاستهلاك السنوي في كل من الصين والهند واندونيسيا بنسبة 5٪ إبان فترة الأزمة المالية العالمية. فارتفع معدل مبيعات التجزئة في الصين بنسبة 15٪ في السنة الماضية، وحتى وإن تضمنت هذه النسبة المشتريات الحكومية فإن نسبة نمو الإنفاق العائلي المسجلة خلال نفس الفترة تبقى مهمة وهي 9٪. وحتى شهر مايو الماضي ارتفعت نسبة مبيعات الإلكترونيات بنسبة 12٪، والملابس بنسبة 22٪، والسيارات بنسبة عالية وهي 47٪. وفي دول آسيوية أخرى كان للبطالة وانخفاض الأجور تحت تأثير الأزمة انعكاساتهما على الإنفاق الخاص. ففي هونج كونج وسنغافورة وكوريا الجنوبية انخفض الإنفاق الحقيقي بنسبة 4-5٪ في الربع الأول من العام عما كان عليه قبل سنة، أي بما يفوق التراجع في أمريكا. إلا أن انتعاشاً لوحظ في الشهور الأخيرة، حيث واصل معدل الاستهلاك في تايوان نموه للشهر الثالث على التوالي حتى شهر مايو الماضي، كما ارتفع الاستهلاك في كوريا الجنوبية منذ بداية العام حتى شهر مايو الماضي بنسبة 5٪. وفي المتوسط فإن اقتصادات البلدان الآسيوية الناهضة سجلت نمواً في الإنفاق نسبته 5,6٪ خلال السنوات الخمس الأخيرة. ومقارنة بالإنفاق الأمريكي، فإن الإنفاق الآسيوي يسجل قفزة. وإن بدا أن الاستهلاك انخفض في إجمالي ناتجها المحلي، فإن ذلك مرده إلى ارتفاع الاستثمار والصادرات وليس لأن الإنفاق فيها كان ضعيفاً. في غالبية الاقتصادات الآسيوية، يشكل الاستهلاك الخاص ما بين 50-60٪ من إجمالي الناتج المحلي. ولأن هذا المعدل منخفض في الصين (انخفض من 46٪ في عام 2000 إلى 35٪ في العام الماضي)، فقد عمدت الحكومة الصينية لاتخاذ إجراءات لتحفيز الاستهلاك. فسكان الأرياف يُمنحون حوافز (دعم مادي) لشراء السيارات والسلع الأخرى مثل التلفزيونات والثلاجات والكمبيوترات والهواتف النقالة. كما تمت زيادة مخصصات الإنفاق على شبكة الأمان الاجتماعي مثل الصحة والتقاعد والمخصّصات الممنوحة لذوي الدخول المنخفضة. كما تم تسهيل عملية منح القروض، حيث تبلغ نسبة الديون الشخصية والعائلية في معظم الاقتصادات الآسيوية 50٪ من إجمالي الناتج المحلي، وهذه النسبة لا تتجاوز 15٪ في كل من الصين والهند، بينما تبلغ هذه النسبة 100٪ في اقتصادات الدول المتقدمة. قد لا تكون معدلات نمو الاستهلاك الملحوظة في بلدان الاقتصادات الناهضة في آسيا عالية بما يكفي لخطف الأضواء من النمط الذي يميز هيكل إجمالي الناتج المحلي في الولايات المتحدة، إلا أنها تؤشر إلى حدوث تحول – موجَّه حكومياً – لتقليل الاعتماد على الصادرات في تأمين النمو وتثقيل دور الإنفاق المحلي في هذا الصدد. وغني عن القول أن الإنفاق الآسيوي يشكل إحدى الرافعات الأساسية للنمو الاقتصادي العالمي. حتى قبل الأزمة المالية والاقتصادية العالمية، فإن مساهمة الإنفاق الاستهلاكي لبلدان الاقتصادات الآسيوية الناهضة في نمو الطلب العالمي كانت أكبر قليلاً من المساهمة الأمريكية. وتتطلع الدول الغربية المنهكة اقتصادياً بطبيعة الحال لقيام حكومات البلدان الآسيوية، لاسيما الحكومة الصينية، برفع سعر صرف عملاتها الوطنية (Revaluation) من أجل رفع القدرة الشرائية لمواطنيها وتحفيز المنتجين على التوجه للسوق الداخلي عوضاً عن أسواق التصدير الخارجية. ولكن لهذا حساباته وكلفه الاقتصادية التي لن يتم البت فيها بتلك الخفة والبساطة.
صحيفة الوطن
19 يوليو 2009