المنشور

الليبرالية التجارية في البحرين ومحنتها الانتخابية! «1»

ورث الجيل الثاني من أبناء الليبرالية التجارية الحالية رأسمالا، بالإمكان نعته الآن بالرأسمال الوطني، وهذا التراكم المالي جاء خلال نصف قرن من بروز الجيل الأول من الآباء كشريحة كومبرادورية لرأسمال أجنبي وفي حقبة الاستعمار، والذي رحل بالمعنى السياسي من البحرين بعد نيلنا الاستقلال في أوائل السبعينات. ولأننا لا نرغب الإشارة تفصيليا عن تاريخ الجيل الأول، والذي استثمر حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية وانتعاش الاقتصاد والتجارة في الستينات والسبعينات واتساع وتنوع مجالاتها ومصادرها. هذا التراكم المالي الذي ورثه الأبناء، والأكثر تعلما ودراية بالعلم والتجارة والمعرفة، بعد أن تسلح بخبرة ثقافية ومعرفية كسبها من جامعات الغرب والعالم العربي. وعندما وجد الأبناء أنفسهم بعد الاستقلال يحلون محل نشاط الآباء، واجهتم معضلة مماثلة، حيث ظلوا معزولين ومهمشين عن القرار السياسي، بل وفضلوا عزل أنفسهم عن مجمل أنشطة وغمار المواجهات السياسية التي عرفتها الحركة الوطنية والمعارضة. ولكي تحمي نفسها وتطوق مصالحها كان عليها الانكفاء السياسي الكامل، وإغلاق الأبواب والهمس من داخل أسوارها العائلية، فقد كان الخيار والجمع ما بين الاقتصاد والسياسة أمرا صعبا، في ظل مرحلة بدأت التوترات السياسية تأخذ منحى مختلفا، الأول مرحلة المجلس الوطني الأول ـ وكان حضورهم النسبي أفضل ـ وقد ساعدتهم على ذلك الظروف الجديدة وغياب قوى سياسية دينية متعددة هيمنت اليوم على الوضع الراهن. والأكثر من ذلك بروز ما بعد المجلس بسنوات نشاط واسع في الاستهلاك الداخلي وإغراق المداخيل النفطية الهائلة خزانتنا وتنميتنا. فكان الظرف التاريخي لهذه الطبقة «الليبرالية الجديدة !!» القادمة من قلب أبناء التجار التقليديين وتاريخهم السياسي المتقلب والحذر، مواتيا بأن تختار طريق إعادة تراكم رأسمالها في مرحلة «ذهبية» والانتقال إلى الصمت المطبق، آثرين السلامة والصدام السياسي أو حتى البوح عن مطالبهم ـ اللهم في بعض الحالات الاستثنائية ـ التي عرفت الشكوى لله والقبول بما يدور ويفرض. عاشت ليبراليتنا الشابة والتي ترعرعت في أجواء ما بعد الاستقلال، في مناخ اكثر ثراء وأكثر توترا وصداما من مرحلة وظروف الآباء. ونتيجة العمر المديد لعدم تدخل الآباء والأبناء في الشأن السياسي، فان هذه الطبقة أصبحت ثرية وقادرة على التأثير الاقتصادي في اقتصادنا الوطني، ولكنها فقدت سلاحها السياسي لتنظيم صفوفها والخروج بمشروع وبرنامج يوحدها ويدافع عن مصالحها. تلك العزلة السياسية والأنانية الاقتصادية فيما بين أطراف تلك الشريحة أو الطبقة، فان القدرة على تنظيم صفوفها في الوقت الراهن يعكس نفسه تاريخيا، ومن الصعوبة بناء حزب وتجمع سياسي قوي في غضون سنوات قليلة، بالرغم من دخول البلاد مرحلة جديدة، هي مرحلة الإصلاح السياسي ومشروع الملك، الذي يدعو القطاع الخاص للمشاركة أكثر في الحياة الداخلية على المستويين. ولكي يمنحها الثقة تمت بعض الإجراءات والتشريعات والقوانين التي تمنحها تلك الحرية المتسقة مع المرحلة ومع رغبة هذه الشريحة الانخراط في الحياة السياسية الجديدة، والتي يجري قطارها يوميا بسرعة فائقة تفوق خمولها وركودها وترددها ومخاوفها، إذ كمن خوف الماضي والانغلاق النسبي داخليا بنوع من المضايقات، كثيرا ما جعلها تضع رجلا وتؤخر رجلا أخرى، فعقارب الماضي وكوابيسه ظلت في تركيبها «وجيناتها التجارية» المعروفة عنها العبارة الشهيرة «الرأسمال جبان» وقد كانت طبقتنا التجارية أحسن تعبيرا عن تلك المقولة. صارت الأمور أمام هذه الطبقة الليبرالية الجديدة أكثر سلاسة ووضوحا في مناخ انتخابي واصطفاف سياسي، عكس نفسه اجتماعيا وحضورا يوميا، غير ان طبقتنا التجارية لم تستثمر الظروف الجديدة بحيث تعيد فكرة أهمية تنظيم صفوفها سياسيا، ولكي تدعم وتؤكد مصالحها وثوابتها الاجتماعية والسياسية في تركيبة أي مجتمع فاعل ومؤثر اقتصاديا وسياسيا وبالذات عمودها الفقري من الطبقة الوسطى. ونتيجة تسارع عقارب الساعات السياسية مرت الدورة الأولى من الانتخابات عام 2002، فلم تحرك لها ساكنا على المستوى العملي، مرت السنوات العجاف للدورة الأولى للمجلس ثم أعقبها الدورة الثانية 2006، فلم تحرك ساكنا أيضا، وكل ما فعلته إبداء رغباتها في دعم جمعيات سياسية وشخصيات مستقلة، أكثر من تحركها الذاتي لبناء صرحها السياسي، مع العلم ان أعداد طبقة التجار ـ أفرادا وجماعات، صغارا ومتوسطين وكبارا، يشكلون رقما مهما فيما لو قرروا بالفعل التعاون والتضامن فيما بينهم. سمعنا من طبقتنا الليبرالية التجارية جعجعة ولكننا لم نر طحنا، وبدلا من الاستعداد لما بين مرحلة الدورة الثانية والثالثة 2010، وجدناها حائرة وتائهة في أمرها كقارب لا يمتلك ربانه البوصلة اللازمة. ولو تم الاستعداد الحقيقي وخلال أربع سنوات مضت، لكانت وستكون النتائج مختلفة بعض الشيء، فما تمتلكه من قوة اقتصادية وسياسية ـ فيما لو نظمت صفوفها ـ طاقة هائلة، وتنتزع مقاعدها بحسم داخل مجلس نيابي يدافع عن مصالحها بدلا من ترك المجلس لتيارات دينية تصول وتجول حسبما يستهويها المزاج والمصالح، والتلاعب بأحلام الناس البسطاء. فهل ما زال متسعا من الوقت للتحرك استعدادا للدورة النيابية الثالثة؟
 
صحيفة الايام
19 يوليو 2009