مجازر بشرية بالجملة تلك التي نفذتها مجموعات الغدر الدموي في العراق خلال الشهرين الفائتين والتي راح ضحيتها أكثر من ٠٠٤ قتيل وآلاف الجرحى في شهر يونيه الماضي فقط. تنتقل فرق الموت لسفك الدماء ونثر الأشلاء ونشر الدمار والترميل والتيتيم، من بغداد وجوارها إلى كركوك والموصل، حيث ‘يُزف عرسان’ الدم مخفورون بوعد آبائهم الروحيين القابعين في أماكن آمنة يعيشون ويتنعمون بحياتهم الرغيدة، فتندفع تلك القرابين الموعودة بشاحنات ضخمة محملة بمئات الكيلوغرامات من المواد شديدة الانفجار، صوب أحد الأسواق الشعبية الفقيرة، أو أحد المطاعم الشعبية التي يؤمها البؤساء، أو نحو مرآب عمومي في ساحة مفتوحة لتجمع الحافلات وسيارات النقل العام، حيث ملتقى الكادحين القادمين أو المتوجهين إلى أعمالهم أو لقضاء حاجاتهم، أو نحو أحد أسواق بيع الطيور التي عادة ما تزدحم بالبسطاء الذين يتكسبون من هذه التجارة البسيطة التي تنتمي إلى طور متقدم نسبياً من الاقتصاد الطبيعي الذي أنشأته الجماعة البشرية في عصورها المبكرة. يندفع ذلكم المسحور (أو المسعور، لا فرق) بشاحنته المحشوة بكل ذلكم الخزين الهائل من الكراهية والحقد الدفين للآخر المختلف، والمملوءة (مادياً هذه المرة) عن آخرها ‘بعناقيد’ الموت، صوب حشود البؤس ‘الفوَّار’، فتحيلها في ثوانٍ معدودات إلى مقصب جهنمي زاخر بذبائحه وأجزائها المتطايرة والمتناثرة ورائحة الدم المسفوح على الأرصفة الصماء المتآلفة بسخونتها مع حرارته ولزوجته ‘الندية’ .. فيشيع الصمم والخرس، تعبيراً عن قمة الصدمة المرعبة، في نفوس المارة والنظَّارة الذين قادتهم أقدارهم في تلك اللحظة المجنونة إلى ذلكم الرعب، فلكأني بهم، وقد صُعقوا من هول المشهد الذي داهمهم، قد شعروا أن الزمن قد توقف عندهم! والغريب أن أساتذة وتلاميذ هذا ‘المحفل’ التدميري لا يذيعون شيئاً ولا يتحدثون إطلاقاً عن عملياتهم التدميرية هذه، ولا عن منفذيها الذين يُفترض أن يُقدَّموا لجمهور الدهماء المغوي بمحاسن وعظيم فضائل خطابهم التدميري، كأبطال وشهداء، من أجل إيقاع التأثير المطلوب في نفوس العامة لاسيما الشباب الغض المستهدف أدلجةً وتنظيماً وتعبئةً وتوظيفاً. ولكن أمراء وشيوخ هذا التنظيم السري شاءت، على ما هو ظاهر، الفتوى بالتضحية بهذا الجانب ومكاسبه، في سبيل المحافظة على ‘عناقيد’ التنظيم وخطوط اتصالاته وإمداداته. فاستعاضوا عن ذلك بالتعامل بمنتهى الكتمان والسرية مع سرايا الشباب الذين تقذف بهم قيادات التنظيم وشيوخه وسط النار والذين يلقون حتفهم، وذلك بإيصال رسالة موجزة إلى أهلهم أو ذويهم مفادها أن فلاناً قد قضى شهيداً في سبيل الله. في الجانب الآخر من الصورة نرى التبلد الشعوري وقد أطبق على كافة ملكات الحس الإنساني فلا يكاد المرء يلحظ زفرة غضب أو احتجاج أو حتى التفاتة تنم عن أن الحواس الإنسانية لازالت حاضرة ولم تمت بعد. ينطبق هذا على أعضاء المؤسسة الرسمية العربية وعلى مختلف التشكيلات السياسية ومؤسسات المجتمع المدني غير الحكومية بنفس القدر الذي ينطبق على النظام الدولي، كدول فاعلة ودول مشاركة وأخرى مواكبة ومتلقية، وكمؤسسات دولية. فلا أحد من كل هؤلاء الأعضاء يعير اهتماماً لهذه المجازر الجماعية المتوالية، ولكأنها أحداث تجري في كوكب آخر لا علاقة للجميع به لا من قريب ولا من بعيد، أو لكأنها حوادث فردية متفرقة سرعان ما ينتهي أمرها وأمر من يقفون وراءها. بل ربما كان تواليها سبباً في نفض الجميع يده منها وابتعادهم عنها يأساً من عبث محاولات وضع حد لها، على النحو الذي أضحت معه الحرب في الصومال ومثلها من المناطق التي تردت إلى أتون الفوضى، حروباً ومناطق منسية، طالما أضحت الأوضاع فيها عصية على الانصلاح.. ربما!
صحيفة الوطن
18 يوليو 2009