في الغرف عبارة بليغة وردت في أحد مؤلفات الدكتور جورج طرابيشي تقول التالي: “التسامح هو أوكسجين الفلسفة بقدر ما ان التعصب هو ثاني أكسيد فحمها” (أو كربونها) – قبل التعريب.
وطرابيشي بدأ حياته الفكرية والأدبية مترجما من الفرنسية إلى العربية، واليه يعود فضل كبير في ترجمة الكثير من الأعمال الفكرية والفلسفية التي أحدثت في حينه ضجة واسعة في العالم العربي، وما يقال عن أعمال الفكر والفلسفة يقال أيضا عن ترجماته لروائع الأدب العالمي من الفرنسية. وليست مبالغة لو قلنا إن كثيرا من المثقفين العرب تعرفوا على الكثير من النتاجات بفضل ترجمات طرابيشي نفسه بين الستينات والسبعينات قبل أن تعصف الحرب الأهلية في لبنان يوم كانت بيروت مطبعة العرب جميعا، منها تأتي الأفكار والصرعات والمدارس الأدبية والفلسفية فتغطي بعد ذلك مساحة عربية كبيرة.
لكن جورج طرابيشي المترجم الذي لايزال يترجم ويقدم عروضا منتظمة للكتب الجديدة الصادرة بالـلـغـة الفرنسـيـة، والذي اشتغل بالنقد الأدبي، وكان واحدا من أوائـل الـذيـن أدخلوا التحليل النفسي إلى الممارسة النقـديــة العربية، وعبرها قدم قراءات جـديرة بالمتـابـعــة حول نصوص إبداعية عربية مهمة، انصرف بعد ذلـك إلى ما يشبه المشروع الفكري الخاص به، وكان لسجاله النقدي مع محمد عابد الجابري أبلغ الأثر في بلورة هذا المشروع.
العبارة التي صاغها جورج طرابيشي كأجمل ما يكون حين عدّ التسامح أوكسجين الفلسفة، ورأى في التعصب هواء فاسداً، كثاني أكسيد الكربون، وهي عبارة تستوقف قارئها لأنها تشكل مفتاحا معرفيا يُعين على معرفة شروط تطور الفلسفة في كل الأزمان والأماكن، فالفلسفة أم العلوم، بدءا من معناها في اشتقاقها الأصلي في الإغريقية القديمة والذي يعني حب الحكمة.
والعبارة تستوقفنا أكثر بإطلالتها الرحبة على مفهوم التسامح كقيمة، بحيث يبدو أوكسجين الحياة كلها، لا الفلسفة وحدها، وهذه القيمة حين تغلب تثري الحياة وتضخ في عروقها الدماء وتشرع النوافذ الجالبة للهواء الصحي لكل الغرف، ابتداء من غرف الدراسة في المدارس والجامعات وانتهاء بالغرف التي يتخـذ فيها أكبر مسؤول قـرارته المصـيريـة تجـاه الوطن والمستقبل، أما حين تغيب هذه القيمة ويعلو التعصب فان الدماء تتخثر ويسود الجو هواء خانق يكتم الأنفاس، كذاك الذي ألفته فضـاءاتنـا العـربيــة، فلـم نعد نرى شكلاً للأفق.