رحل في النهاية الفنان الكبير ومغني البوب الشهير مايكل جاكسون، والذي عندما يتحرك لكل حفلة غنائية يحتاج إلى رجال يحرسونه “البودي غارد” وكأنه رئيس جمهورية الولايات المتحدة الأمريكية، وعندما يهبط من سيارته الليموزين السوداء بنظارته “الرايبون” وحذائه بكعبه الطويل المميز الشبيه براعي بقر من كاليفورنيا التي أحبها وعاش في كنفها في بيته وفردوسه الكبير، ذلك القصر الفخم والذي يحلم أن يعيش داخله كل فنان يحب حياة البذخ والترفيه، غير ان “جاكو” وهو الاسم الذي كان يناديه به أصدقاؤه ومقربوه في مقتبل العمر، لم يكن يحب أن يحاط إلا بالأطفال والصبية، وهذا السلوك الغريب أثار حفيظة رجال الإعلام وعدساتهم، فظلوا يلاحقونه ويتصيدونه، بل وأضافوا حوله حكايات غرائبية أثارت اللغط في المجتمع الكاليفورني، والأكثر من ذلك كان خلف تضخيم تلك التهم خصومه الفنانون وحاسدوه على شهرته، فلم يتوقفوا عن حياكة كل خيوط تعشقها كاليفورنيا والمجتمع الفني، فلا يوجد أعذب وأجمل خصبا من مخيلة تلك القصص الفنية، والتي تعشقها المراهقات والنساء. بين “أطفاله وقردته!!” المحبب عاش في ذلك القصر العامر وتنقل بين بلدان قليلة، حظيت به البحرين مقاما ومكانة، غير ان مايكل جاكسون عملاق فن البوب في الثمانينات لاحقته أصوات الجماعات الأصولية في البحرين وكادوا أن يثيروا حوله غبارا في المجلس النيابي، مما جعله ظاهرة سياسية أيضا، أكثر من كونه ظاهرة فنية ستبقى مثل عملاق الروك آند رول الفس بريسلي، فلكل واحد منهما طريقته، ولكنهما استطاعا ان يبنيا لهما فنا متميزا وطريقة خاصة. جاكسون الذي أينما ذهب لاحقته تلك العدسات وتساءلت حول عمليات المكياج والألوان التي صبغ بها وجهه لكي يبدو ابيضا. ذلك الصبي الفقير الذي خرج من قاع انديانا وبيئته البائسة في بيت ضج بالأطفال العشرة، فجاءت شهرته الأولى من عمق تلك العائلة الفنية، والتي أسست أول فرقة لها من خمسة أخوة أطلقوا حينها على فرقتهم اسم “جاكسون5” ومن تلك البذرة الأولى سيشق جاكسون طريقه للنجومية. ربما لن يفهم الكبار سر جاذبية جاكسون لدى الشباب في العالم، ولا سر قدرته السحرية وهو على خشبة المسرح وهو يركض كلاعب سيرك ماهر وبمرونة عالية لا يمكن لأي فنان تطويع جسمه لها بكل سهولة. هذا الفنان الإشكالي حاول أن يضيف حول نفسه القصص باصطناع الحركات البهلوانية ليس على خشبة المسرح وإنما على خشبة الحياة، إذ لا يمكن لأي فنان أن يبقى ساحرا لجمهور شاب وغفير إلا بتلك الاثارات، في وسط شاب يحيا على روحها وأساليبها. بتلك القصص الغامضة والمثيرة “لملك البوب” تقلدوه ونهجوا نهجه في الرقص والغناء، فعاش عمرا فنيا خالدا في مجتمع عرف كيف يجيد فن التسويق والمبيعات، لهذا كان من الطبيعي أن تبلغ مبيعاته فوق العشرين مليون دولار في السوق الداخلية يوازيها مبلغ مماثل في مبيعات الخارج. فهل مثل هؤلاء المترعين بالثروة والنجومية كانوا دائما يعيشون سعادة مطلقة، أم أنهم في داخلهم كانوا يعيشون حياة بائسة فقدت معنى السعادة. ستخرج الجنازة الكبيرة مثل كل عظماء العصر، وستذرف النساء والصغيرات الدموع على جنازته، وتصاب الكثيرات بنوبات عصبية من شدة الصراخ والحسرة. فهل هي حالة عادية أم أنها حقا تستحق هذا الوداع؟ ولماذا لا نقبل بحقيقة واقع يعبر عن شريحة مجتمعية لها قيمتها السياسية أيام الانتخابات والتصويت؟ أليست الفئة الشابة شريحة مجتمعية استهلاكية هامة يضعها في الاعتبار تجار التسويق فيصمموا لهم كل متطلباتهم فيما نحن المتزمتين سياسيا ومجتمعيا لا نرى في الأمور إلا وجهة نظرنا، ولكننا عند لحظة التسويق التجاري والسياسي أيام الانتخابات نركض ناشدين الشباب طاقتهم ومساعدتهم في إبراز طاقتهم وحيويتهم في المواجهات والمعارضة الساخنة. لهذا يستحق مايكل جاكسون هذا الاهتمام الأسطوري بجنازته مثلما اهتم العالم بحياته الفنية للعظماء والفنانين الكبار جنازات كبيرة، ولمايكل واحدة منها، وسنراه مسجيا فوق خشبة الموت، كما كان فرحا فوق خشبة المسرح، فيشعرنا الموت بعظمته وجبروته، ويجعل منا كائنات هشة ذاوية ومنسية بعد أيام، إلا ذاكرة الألبوم والعدسات والتاريخ المزدحم بالحكايات، نصفها حقيقة والنصف الأخر مشوه وحكايات مزيفة ودسائس تحسنها الأقلام المقيتة في الصحافة والإعلام. بين رجالات الإعلام والسياسة كان مايكل جاكسون حاضرا ولكن في إطارات وأوعية أخرى، فهو كثيرا ما ساهم في دعم شؤون الفقراء ومرضى العالم بطرق فضّل عدم الإعلان عنها، ولكن عدسات التصوير لا ترحم أحدا.
الأيام 14 يوليو 2009