وجد الرئيس الهندوراسي خوسيه مانويل زيلايا المنتخب وفق الشرعية الدستورية نفسه، ينتزع من غرفة نومه وببيجامته من قبل الانقلابيين العسكر، على متن طائرة مروحية عند مدينة حدودية في كوستاريكا المجاورة. تلك الحركة الانقلابية على الشرعية الدستورية في البلاد لم يمض عليها وقت طويل، فقد ثارت حولها زوبعة كاملة وسط المؤيدين للرئيس خاصة وسط القاعدة الشعبية الفقيرة، وفي بلد نصف سكانه يعيشون تحت خط الفقر، خاصة وإذا ما عرفنا ان هندوراس بلد يبلغ تعداد سكانه ما يقرب سبعة ملايين ونصف نسمة.
وقد اتسع الاحتجاج الدولي أولا في الدول المجاورة ثم اشتعل لهيب الغضب بسرعة لدول أمريكا اللاتينية ثم أروقة الأمم المتحدة، التي أعلنت بقرار تم الموافقة عليه من تكتلات ودول عظمى كالولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي والمنظمات القارية، جميعها صوتت لصالح الشرعية الديمقراطية مهما كانت الاختلافات الدستورية وبعودة الرئيس الشرعي المنتخب، فالخلافات الدستورية تحل عن طريق الحوار السلمي ووفق المواد الدستورية والمحكمة العليا في البلاد، ويمنع انقضاض قوى الجيش ومخالب العسكر على أي سلطة شرعية وتحت أي ذريعة ومهما كانت الحجج والادعاءات.
فهل بالفعل كانت الخلافات القائمة بين الانقلابيين العسكر الذين كانوا أداة سوداء لوجه آخر في البلاد وقوى يقودها الرئيس «الشعبوي» المخلوع مانويل زيلايا هي الدوافع الحقيقية وغير المعلنة، والتي بدأت تظهر تدريجيا رائحتها من تحت الطاولات ومن خلف الأدراج والمكاتب الرسمية والبيروقراطية في هندوراس؟
بدت للمراقبين من أول لحظة ان الخلافات الحادة هي تلك الانتهاكات الدستورية للمسألة الانتخابية بحق الرئيس لدورة ثانية وغير محدودة «بين طرفين» قوى تخشى التجربة الفنزويلية وتكرارها في البلاد، وبين قوى ترى في ذلك النموذج الطريق الأمثل للوضع الداخلي لحل معضلة الفقراء في البلاد، وآلية إعادة توزيع الثروة والرقابة على مصادرها والمصادر الخارجية.
ويرى التيار الشعبي المؤيد للرئيس المخلوع، إن مكامن مناهضة الفساد في البلاد، والضارب في عمقه لعقود طويلة يعشش في تلك البيروقراطية المدنية والعسكرية، خاصة إذا ما عرفنا إن البلاد خضعت لما يزيد من عقدين متواصلين تحت قبضة حديدية لتلك الطغمة العسكرية في الجيش، والمعروفة بفسادها الفاحش وسوء سمعتها في تهريب الأسلحة وعقد الصفقات في مركز أمريكا الوسطى، حيث كانت من هناك تنطلق القواعد العسكرية الأمريكية ووكالة الاستخبارات المعنية بمراقبة كوبا ونيغاراغوا وكل مداخل ومخارج ممتدة ما بين جنوب أمريكا اللاتينية وعنق بناما الحيوي. هذا إلى جانب كونها كانت مركز تدريب لمشاريع انقلابات عسكرية وتخريبية في القارة.
هندوراس بعد انتهاء حقبة الحرب الباردة وجدت نفسها في حالة يرثى لها، حيث تخلت الأم الرؤوم عنها ونفض العراب الكبير يده عن نهجه القديم في كل قارات العالم، وصار نهجه الجديد يلوح بمشاريع الديمقراطية وحقوق الإنسان، والتي شكلت لغة لا تنسجم وملابس ووساخة فساد المؤسسة العسكرية في القارة، والأنكى من ذلك فتحت الولايات المتحدة ملفاتها الأمنية لمحاسبة ومساءلة كل المؤسسات العسكرية في القارة، على ما اقترفته من جرائم بحق شعوبها، بل وقدمت اعتذارا رسميا لتلك الشعوب، بعد أن سدت جميع الأبواب في وجه الجنرالات، كحضن تقليدي للجوء في تلك الأزمنة الوردية! وباتت تلك الرتب الكبيرة تتساقط الواحدة بعد الأخرى، وصارت الملفات تتناثر أسماؤها في شوارع وعواصم تشيلي والأرجنتين وأروغواي وكولومبيا والإكوادور، بحيث خرجت كل تلك الفئران الظلامية المتخفية في أقبية التعذيب فزعة تفتش لها عن ملاذ امن في بلد بعيد!.
هذا الانقلاب الكوني الناتج عن زلزال عالمي، ظلت ملفاته عالقة ومتلونة بعباءات كثيرة لشعور البعض منهم «أنهم مازالوا يقبضون بزمام الأمور، ومازالوا تحت حماية عناصر وقوى فاسدة مثلها». لم يدم ذلك طويلا في هندوراس، خاصة في سنوات حكم زيلايا، الذي بدأت ترسانة التنظيف عنده تتحول نحو المؤسسة العسكرية، فكانت إقالة وزير الدفاع مؤخرا علامة لما هو أعمق من ذلك.
لم يتصور أثرياء البلاد وما حولها من بلدان إن ذلك الثري المحافظ، سيمضي نحو منهج ليبرالي أعمق كان بالإمكان احتماله وامتصاصه في ظروف ديمقراطية محاطة بطفيلية رسمية ومجتمعية، ولكن الرئيس وفي مناخات رياح الموجة اليسارية في القارة، بدأت حمى «المزاج اليساري» تتملكه – وهي إما لحالة انتهازية أو لتبدلات سياسية وواقعية تفرضها حالة ومنطق التغيرات ـ ما قام به العسكر من انقلاب ونهج أحمق لم يحسبوا ردود فعله السريعة من قبل المجتمع الدولي، متناسين طبيعة الوضع العالمي الجديد وملامحه الديمقراطية ومؤسساته الشرعية.
الأيام 12 يوليو 2009