المنشور

مواقف ثقافة طواحين الدم


في كتابه «المرئي واللامرئي في الأدب والسياسة»، كتب هادي العلوي عن «ثقافة الجثث المعلقة»، إذ قال في مطلعها الآتي «قام عبدالسلام عارف عند اقتحامه القصور الملكية في الرابع عشر من (يوليو) تموز 1958 بتسليم جثث الذين قتلهم من أركان النظام الملكي إلى الغوغاء، وأنا منهم وكنت في عشرينياتي، فمثلوا بها وعلقوها على الجدران والأعمدة وسحبوها في شوارع بغداد، ولم يستنكر أدباء ذلك الوقت من أساتذتنا هذا الفعل الغوغائي، بل بالعكس نظموا مظاهرة تنادي بقتل المزيد. وكان يقود المظاهرة الشاعران محمد مهدي الجواهري ومحمد صالح بحر العلوم، الذي تخصص بعد ذلك بمدح صدام التكريتي». (1)

تذكرنا هذه الجزئية بما يجري الآن من طواحين دم في بقاع متوترة عدة من العالم برزت على السطح حديثاً.. «إيران والصين» مثالان ساطعان لانقسام المثقفين إلى فريقين: أحدهما يؤيد المذابح، من دون أن ينفطر قلبه، وآخر يستنكر همجيتها بتقزز، لكنه يُتهم، من البدء حتى الخاتمة، بـ “العمالة للغرب والأميركيان”.

من سلوكيات بعض المثقفين الذين تتألم عيونهم دمعاً فقط، عندما يقع الفعل الوحشي على أصحابهم، أما غير ذلك، فالتبريرات تخرج من أفواههم وكتاباتهم «في قوالب جاهزة»، أبسطها «المساس بأسس الثورة، أو الوحدة الوطنية، العمالة للخارج، والشبكات المعادية للثورة، تقويض النظام إلى آخره مِن الذي تعرفونه»؛ لذلك يستحقون الدوس بالأقدام، والسحق والإبادة، كالذي يحدث في الصين من قمع «أقلية الويجور»، وما يتصل بالحوادث الدموية التي أوقعت 156 قتيلاً في شينجيانج، وما يحدث في جمهورية إيران الإسلامية بوجهيها اللذين ظهرا بعد نتائج انتخابات 12 يونيو/حزيران وبعد الإعلان عن فوز الرئيس محمود أحمدي نجاد وتأييد مجلس صيانة الدستور لهذه النتائج “ظهر الكثير من الإيرانيين في شوارع وميادين طهران والمدن الكبرى، هاتفين بأنهم لا يقبلون النتائج”، و” أخرج البعض المصاحف وأبرزوها أمام رجال الشرطة وقالوا لهم نحن مسلمون أيضاً، لماذا تضربوننا؟!”.

كانت هناك ظلال من الشعور بالخزي تلوح في وجوه وعيون قوات الأمن»، وفق العريضة التي كتبها المخرج الإيراني الشهير بهمن فرمان آرا. إذ قال ” أنا إيراني أعيش في إيران وأؤمن بدستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ولكن لا يُشير أي نص في الدستور إلى أنه يجب عليّ أن أصدق أيضاً جميع الأكاذيب الرسمية”.
” في هذه الأيام نحن مدعوون إلى مأدبة الصمت؛ وأعتقد أنه بحضورنا لها لن نخسر فقط أصواتنا إلى الأبد، ولكن أيضاً سيلحق بنا العار الأبدي بتجاهل الحادث الدموي الذي قتلت فيه ندا في شوارع طهران. وأؤمن بما قاله شكسبير في مسرحيته يوليوس قيصر: (الجبان يموت ألف مرة قبل موته، ولا يموت الشجاع سوى مرة واحدة). ومن أجل الأمل في تحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية لجميع الإيرانيين اتخذ هذه الخطوة المحفوفة بالمخاطر”.

” ليس مهماً إذا لم أخرج المزيد من الأفلام. ولكن من المهم ألا أرقص على أية نغمة رسمية؛ لأنه في عمر 68 عاماً يكون الأمر مشرفاً. لست بطلاً ولا أطمح لأن أكون كذلك، ولست متأكداً من مدى تحمل جسدي الضعيف للألم في الأسر قبل أن أوقع على أي شيء يملى عليّ”. (2)
هذا نموذج من المثقفين الإيرانيين، مثله مثل محسن مخملباف، وآخرين يدينون القبح، والقتل في كل مكان بمفاهيم إنسانية من دون وضع أي اعتبار لما نسمعه من رطانة بعض مثقفينا العرب.

(1) هادي العلوي – «المرئي واللامرئي في الأدب والسياسة» ص.113
(2) عطا الله مهاجراني – «مأدبة الصمت» – صحيفة «الشرق الأوسط» – الاثنين 13 رجب 1430 هـ 6 يوليو 2009 العدد .11178
 
الوقت 10 يوليو 2009