في ورشة عمل نظمها الاتحاد الدولي للصحافيين بالتعاون مع جمعية الصحافيين البحرينية في بيت عبدالله الزايد رائد الصحافة البحرينية رحمه الله، اعتبر أمين عام الاتحاد الدولي للصحافيين ايدين وايت أن أبرز التحديات التي تواجه الصحافيين تتمثل في العمل المستقل في تغطية الأحداث السياسية، ارتباط بعض الصحف بأحزاب سياسية والميل إليها، الإثنية والطائفية فيما يخص العالم العربي.
إنها مسائل في غاية الصعوبة يسهل لمراقب غربي غير معايش لتفاصيلها اليومية، متنعم في دياره بمناخات الحرية الصحافية والمستويات المهنية المتقدمة، أن يستسهل تصوُّر إمكانية مقابلتها بالأسقف والمعايير الدولية على النحو الذي تفضل به ‘ايدين وايت’ في محاضرته في الورشة المذكورة، وذلك من خلال المبادئ الستة التي دعا للالتزام بها (!) وهي:
1- دعم حقوق جميع العاملين في الإعلام ومنح الصحافيين حق العمل تبعاً لما تمليه عليهم ضمائرهم،
2- تدعيم أنظمة موثوقة للتنظيم الذاتي ومساندتها،
3- بناء تحالفات داخل الإعلام للدفاع عن الصحافة النوعية،
4- تشجيع النقاش حول مستقبل الإعلام والصحافة،
5- العمل على إظهار دور الصحافة المستقلة وقيم الخدمة العامة أثناء صياغة السياسات الإعلامية على كافة المستويات،
6- رفع القيود المفروضة على حرية الصحافة ودعم حق الناس في المعرفة’.
فهل هذه الاسقف من ضوابط متطلبات ممارسة أعلى درجات المهنية والاحترافية، يتسق مع الحالة الراهنة للصحافة وللإعلام العربي بصفة عامة؟ المحاضر نفسه لا يبدو واثقاً من تطابق منظوره لنوعية الصحافة والإعلام المنشودين مع معطيات الواقع البنيوي، السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، السائد في عموم الساحات العربية بلا استثناء، فهو يُقر أن ‘الصحف لها انتماءات سياسية أو أيديولوجية مختلفة، ويتساءل في ضوء ذلك، عن مدى إمكانية التفريق بين الغث والسمين وسط الكم الهائل من المعلومات المتدفقة وعن مدى توفر المصداقية والشفافية الكافية، وعن إمكانية كشف المالكين الحقيقيين للصحف؟’. لذلك هو يطرح مقاربات لا نعتقد أنها كافية لتصحيح الاختلالات سالفة الذكر، ومنها محو الأمية الصحافية من العامة، ونشر التعليم الصحافي، والمبادرة لتعزيز أخلاقيات الصحافة، وتنشيط مؤسسات المجتمع المدني لدفعها نحو خلق مؤسسات تراقب مالكي الصحف وتدخلاتهم للسيطرة على المعلومة أو حجبها.
المشكلة تكمن، كما نزعم، في إشكالية التضاد الواقع بين الضوابط والقواعد المنظمة للمهنة والعمل الصحافي والإعلامي بوجه عام بمصاحبة المناقبيات الأخلاقية المفترضة في أطقم العمل الصحافي والإعلامي، وبين حزمة المصالح المتنوعة، الفردية و’الكارتيلية’ (نسبةً إلى لوبيات المصالح المتضامنة المصالح) التي اقتحمت الجسم الصحافي العربي اقتحاماً فظاً لحد فرض نفسها متغيراً (Variable) ثالثاً بجانب القواعد التشريعية والضوابط التنظيمية والمناقبيات، التي تحكم، جميعاً، علاقات العمل والإنتاج الصحافي.
لذلك لا يخال المرء، والحال هذه، أن تتمكن الضوابط والمناقبيات، برغم صرامتهما وزجريتهما التأديبية (المادية) والأخلاقية، في النظر والتطبيق معاً، من مقابلة التحدي الذي تمثله شبكة المصالح المحيطة بعالم النشر الصحافي والإعلامي والتي تشابكت خيوطها وتعمقت وتشعبت في حياتنا الاقتصادية والاجتماعية العربية في السنوات العشر الأخيرة ونيف على نحو خاص، وذلك في محاكاة ومواكبة طبيعية لما هو جارٍ وحادث في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة التي تحتل البيوتات الإعلامية والصحافية حيزاً ضخماً في حياتها. كما سبق وشخصنا مثل هذه ‘الاستعارات والإحلالات “Substitution” (تعبير، نزعم، أنه أقرب للدقة من تعبير التطور “Evolution” في توصيف المقاربة الانتقائية (Selective approach) التي تعتمدها الأطر المؤسسية السيادية الحاكمة في المجتمعات العربية في تعاطيها مع استخلاصات حركة التقدم الديناميكية العالمية) – فإنها إنما تعبر عن توجهات سياسة ‘التنقيط من أعلى’ التي يجري بموجبها تنفيس احتقان مجرى علاقات قوى الإنتاج فوقياً للحيلولة دون اتساع الفجوة بينها وبين القوى المنتجة التي تسارعت وتيرة تقدمها تحت تأثير عولمة أسلوب الإنتاج الرأسمالي العالمي.
بهذا المعنى تصبح مفهومة إيجابية تعاطي الميديا العربية مع آخر استحداثات ‘وصرعات’ تكنولوجيا المعلومات (I.T.) ولكن من دون ‘الاضطرار’ ‘للتعاطي’ الإيجابي مع الأفكار الطليقة والمبدعة التي أنتجتها.
لذلك أيضاً، فإنه وبرغم الثورة المعلوماتية وحرص القائمين على أجهزة الميديا العربية على التمنطق بأزهى ‘صرعاتها’، إلا أنها مازالت متسربلة في ‘نعيم’ ولاءاتها الجهوية والإقليمية والطائفية و…الخ. حتى أجهزة الميديا الأجنبية الناطقة بالعربية لم تسلم من هذا التكالب المريض، حيث تم تجييرها لصالح الجهة المتنفذة فيها بما يخالف صيانة الأمانة التي ائتمنها عليها مالك وسيلة الميديا المعنية!
الوطن 11 يوليو 2009