في دراسة صحفية لي نشرتها “أخبار الخليج” في أواسط تسعينيات القرن المنصرم تحت عنوان “أغاني عبدالحليم حافظ الوطنية.. ألبوم لثورة يوليو” تناولت فيها سيرة حياة هذا الفنان الكبير الغنائية الوطنية التي بدأت مع بدايات ثورة يوليو وأفلت مع أفولها بعد رحيل قائدها جمال عبدالناصر، أتذكر بأن واحدا من الاستنتاجات التي حرصت على توضيحها وتأكيدها ضمن السياق التحليلي لمحاور تلك الدراسة أن جزءا كبيرا من المصريين والعرب ممن تأثروا بمبادئ وأفكار ثورة يوليو إنما جاء تأثرهم على خلفية إعجابهم وعشقهم لأغاني عبدالحليم العاطفية، حيث امتد هذا الإعجاب ليشمل أغانيه الوطنية والقومية وليكون
البوابة لاجتذاب العديد منهم إلى عالم السياسة بدلا من قصرها على حياتهم العادية وهواياتهم المختلفة الشخصية الضيقة. هذا مع أن أعمال عبدالحليم حافظ الفنية الوطنية لم تكن وليدة خيار شخصي بالكامل، أي لم يكن فنانا سياسيا ملتزما بدوافع ذاتية مستقلة صرفة بعيدا عن تأثير سلطة ثورة يوليو، وذلك على إثر نجاحه السريع في أعماله الفنية العاطفية الأولى غداة قيام الثورة في أوائل الخمسينيات.
وما وددت أن أصل إليه من هذه المقدمة المسهبة أن الفنان إذا ما كان يملك موهبة في أكثر من مجال فني وإبداعي أو ثقافي وأدبي، وفي الوقت ذاته يحمل رسالة وطنية وإنسانية عالمية تعكس وعيا سياسيا معمقا فإنه يستطيع من خلال توظيف موهبته الفنية والإبداعية في مجال أو أكثر من مجالات الإبداع والفن التي يحظى من خلالها بشعبية جارفة في خدمة رسالته الوطنية.
أما الفنان الموهوب سواء ذو الثقافة السياسية العادية غير المعمقة أم البعيد كل البعد عن السياسة والوعي السياسي المعمق فإن جماهيريته لن تتعدى حدود المعجبين بفنه مهما بلغ عددهم ولن تكون ذات رسالة أو وظيفة سياسية وطنية وإنسانية، أي كسلاح من أسلحة النضال للتغيير السياسي والاجتماعي الجذري في خدمة تلك الرسالة وبخاصة حينما يجمع الفنان الموهوب موهبة أداء الأغاني السياسية الوطنية مع موهبة أداء الأغاني العاطفية الإنسانية الراقية.
ولنتخيل لو ان الفنان العالمي الأمريكي الإفريقي الأصل مايكل جاكسون الذي رحل عن دنيانا في أواخر يونيو الفائت كان يحمل رسالة نضالية سياسية تعكس وعيا سياسيا وطنيا وإنسانيا عالميا يتمتع به، أو لنقل كان له الاستعداد والإرادة والجاهزية لحمل مثل تلك الرسالة وهو يجمع في ذات الوقت موهبة الإبداع الغنائي العاطفي المتجدد الذي تميز به مع موهبة الإبداع الغنائي الوطني والإنساني المفعم بالقيم والمضامين السياسية التعبيرية، فكم يا ترى الأثر الكبير الذي كان سيلعبه دوره الفني ليس في تغيير المجتمع الأمريكي فحسب، بل في تغيير عقول وأفئدة الملايين العاديين من المعجبين في العالم بأسره! نقول هذا على الرغم من إدراكنا أن سيرة حياة الفنان جاكسون الملتبسة والمثيرة للجدل التي انتهت بتلك النهاية التراجيدية المأساوية الفاجعة التي فاجأت العالم كانت بمثابة سيمفونية رمزية معبرة بكثافة عن سيرة حياة الأمريكيين الأفارقة بأسرهم وما تعرضوا له من قهر عنصري وطبقي مزدوج منذ استعبادهم بعد اصطيادهم واقتلاعهم من جذور قارتهم السمراء وشحنهم في سفن البيض كالمواشي أو البضائع لبيعهم في أسواق النخاسة بالولايات المتحدة قبل استقلالها، وهو الظلم الذي لم ينته بعد الاستقلال إلى يومنا هذا، حتى بالرغم من انتزاعهم المكسب التاريخي المهم بإقرار الحقوق المدنية لهم ومساواتهم بالبيض منذ ستينيات القرن الماضي الذي تتوج بما لم يتوقعه أحد حتى في الخيال بوصول أول رئيس أسود إلى سدة الحكم في البيت الأبيض.
فعلى الرغم من شهرته الفنية المدوية التي أطبقت آفاق الدنيا بجهاتها الأربع، وعلى الرغم مما حازه من ثراء انتهى بمديونيته، فإن ما من فنان عالمي شهير عاش في طفولته حياة قاسية معذبة وتعرض منذ صعود نجمه الفني للاستغلال الرأسمالي البشع الذي لا يخلو بعضه من النصب والاحتيال القذرين، كإفراز من إفرازات شرور المجتمع الأمريكي الرأسمالي الذي يعيش فيه، ناهيك عما تعرض له من تشويه فظ لسمعته الأخلاقية الشخصية على خلفية تصفية الحسابات والثارات الشخصية معه من قبل المتربصين لأخذ نصيبهم لاستغلاله التجاري الحاسدين لتمكن غيرهم من النصابين والمستغلين منه.
ولد جاكسون في أسرة سوداء فقيرة، كان والده عاملا في المناجم قبل أن يترك هذا العمل ويتجه إن صح القول إلى الاستثمار الفني بتأسيسه فرقة عمادها أولاده الخمسة “جاكسون 5” التي انطلق منها إلى نجاحه الصاروخي العالمي السريع، وكان يتعرض للضرب المبرح من قبل أبيه الذي كان يسخر من حجم أنفه. ومع أن الكثيرين اعتقدوا – بقصد أو من دون قصد – أنه غير جلده لعقدة من عرقيته السوداء المنبوذة لكنه يؤكد في مقابلة تلفزيونية مع “أوبرا” أن السبب وراء ذلك مرض جلدي أشبه بالبهاق. أما حكاية اتهامه بالشذوذ فلم تثبت والراجح أنها مفبركة من قبل أعدائه الاستغلاليين والمحتالين بغية اغتياله فنيا عبر اغتيال سمعته الشخصية وزجه في السجن، كما لم يثبت على نحو قاطع تعاطيه المخدرات، رغم كل الأساطير الفضائحية التي نسجتها من حوله الماكنة الإعلامية لبلاده التي هي أكبر إمبراطورية إعلامية رأسمالية في العالم.
كان أفضل ألبوماته مبيعا “ثريللر” الذي بيع منه 65 مليون نسخة في العالم من أصل 750 مليون تسجيل غنائي له بيع في أسواق العالم. وقدر ما جناه من بيع أغانيه وأشرطة الفيديو والحفلات الغنائية والإعلانات بـ 500 مليون دولار وهي تعادل تقريبا حجم ديونه الحالية، لكن ما لم يكشف عنه حتى الآن هو ما راكمه من أرباح خيالية متعهدو الحفلات ومنتجو أشرطة الفيديو وشركات الإعلانات من استغلال لنجوميته وأعماله الفنية، دع عنك الأطباء والمحامين المتهافتين على استغلال ما يتعرض له من مشاكل، جلها مدبرة ضده، ومتاعب صحية، هو العليل الهزيل الذي مات صريع الأدوية المتعددة المهدئة وسوء التغذية، حيث لم يكن يتناول سوى وجبة واحدة في اليوم.
ما من سلاح يستطيع أن يثأر به من أعدائه وأعداء شعبه العنصريين وينال منهم سوى الفن الوطني السياسي الملتزم، سواء خلال حياته أم بعد مماته، وهذا ما افتقده – للأسف الشديد -الفنان العالمي الكبير الأسطورة مايكل جاكسون.
أخبار الخليج 11 يوليو 2009