بعد التحولات في منطقة الخليج والعراق وإيران تم وضع علامة فارقة بين هذين التاريخين وما قبلهما.
لقد وصلت الحركاتُ المحافظة الدينية إلى ذروتها، وبدأت الحياة الاجتماعية تطرح مهمات أكبر من أحجام هذه الحركات.
في ذلك المفترق بين التطور التقليدي المحافظ الذي تم تثبيته من خلال الأنظمة المحلية والقوى الغربية خلال الحرب الباردة الموجهة ضد التيارات التقدمية والليبرالية، وما بعد الحرب الباردة والأضرار التي حصلت للبشرية من تنمية هذه التيارات التي أوغل العديد منها في الإرهاب، وتفجير عمليات الانفصال المحمومة عن الدول الوطنية، غدت هذه الحركات نفسها أمام مخاض التغيير الذي تستشعره من دون أن تعيه، ترى ظاهرات كثيرة عجيبة من دون أن تفسرها تفاسير أبعد من مظاهرها السطحية.
إن الرأسماليات الكبرى غرباً وشرقاً لم تعد لديها قفزات في الهواء الأيديولوجي، ورأت معاركها السابقة على ضوء آخر، وتجاوزتها في سباق محموم من أجل الأسواق والمصالح، عبر الابقاء على حدود الدول كما تمخضت عنها تحولات الكتلة الشرقية السابقة، وتصاعدت مظلة حلف الأطلسي لتضم الدول ذات الصيغة البرلمانية، وتوجه أغلب هذه الدول الكبرى إلى نزع فتائل المواجهات في كل منطقة.
لقد أدت النزاعات وسباقات التسلح والحروب الدينية إلى خسائر جسيمة، وكانت الأسواق واضطراباتها جزءا من الخسائر المادية.
في حين تطرح الدول والحركات الطائفية ضمن ما تطرحه تفكيك الدول، وهو الأمر المفجر للحروب، والابتعاد عن الطريق الديمقراطي العام للبشرية، ورفض ثمار التنوير المتراكمة خلال القرون السابقة ومن أجل العودة إلى مواريث العصور الوسطى.
ففي منطقها انه لا برامج تحديثية للشعوب، بل فقط الارتكاز على مناطقها الجغرافية المذهبية، وعلى أقاليمها وطرح التفكيك السياسي لكل دولة، أو إخضاع القوميات والمذاهب لسيطرة مركزية طائفية.
إن هذا المسار متناقض كليا مع المسار البشري العام.
كانت حرب العراق التي قضت على النظام السابق، قد طرحت أهمية الدولة المركزية الديمقراطية العلمانية، لكن القوى السياسية كانت أقل مستوى من هضم هذا الهدف، وغرقت في أضدادها، ودخلت في محاصصات طائفية وتقسيم ضمني للدولة، ثم وجدت أن القوى الطائفية الإرهابية وقوى التدخلات من الأنظمة الشمولية تعرضها جميعاً للتصفية ونقض ما هو وطني هش تم الوصول إليه، وكان هذا انكساراً لمشروع الجماعات الطائفية المختلفة، وإن لم يكن هزيمة عميقة.
ولعبت الأحداث الإيرانية دورا مهما في كشف هذا المسار، فقد كان الانفجار الشعبي الأول ضد الشاه له سياق مختلف، نهضوي، لكن القوى السائدة التي استفادت من قمع الشاه كانت تعود للقرون السابقة، فحدث خطأ تاريخي؛ شعبٌ متوثب “نهضوي” بقيادة تقليدية. فكان لابد من حدوث تصحيح، شعب نهضوي وقيادة نهضوية.
إن فعل الصدمة كان للجميع في الواقع، فلم يصدق أحد ان النظام الشمولي العسكري الإيراني يمكن ان يتمخض عنه مثل هذه الحياة المضادة، نظراً لعدم فهمهم مسار التاريخ المتعرج، لكنها في الواقع صعدت من خلال شقوق النظام وفاضت عليه بقوة، فكان لابد من ملء هذه الشقوق بالحديد والنار.
إن هزيمة النظام العراقي السابق والأحداث الإيرانية تتوجهان لمسار واحد، ويضاف إليهما بعض الإشارات الكبيرة كتخلي بعض الأنظمة عن تشددها، وهزيمة القوى المتشددة وقيام الناس بوضع علامات استفهام حول وحدات سياسية قسرية.
إن الحراك الجماهيري الحر والعفوي يُقابل من قبل التنظيمات المحافظة بالدهشة والانصعاق في اللحظة الأولى، فالأرض السياسية المرسومة بمفاهيم تعود إلى قرون سابقة، غذتها فترة الحرب الباردة وتصفيات القوى الحديثة، فتوهمتها بأنها حياة سياسية أبدية، فكشفت الأحداث عن أرض زلازل، فيها المدمر وفيها الباني.
نلاحظ على التقييمات للأحداث الإيرانية بعد فترة القمع والسيطرة عودة النغمات القديمة، وبعد فترة من ربطها بالخارج، وهو أمر بدا واهياً، بدأت اللغات تتحدث عن انتهازية القوى الحديثة وبساطة وشعبية السلطة وعمالية أجهزة القمع، وهي ألفاظ مستخدمة من القواميس اليسارية لكنها مقلوبة كاريكاتيرية.
إن دخول هذه المصطلحات اليسارية في قاموس ديني محافظ يعبر عن انكسار القاموس القديم لكن في الظاهر فقط، فلاتزال الرؤية المحافظة متشبثة بقاعها، من خلال عدم قراءاتها الصراعات الاجتماعية في إيران، وقد أوّلتها بطريقة هي استمرار للقاموس اليساري المعكوس، عبر القول إن المتظاهرين هم أولاد الذوات وبرجوازية طهران، ثم بالقول عن انتهازية الإصلاحيين، ورفضهم الديمقراطية ونتائجها.
وهناك من يقول بالبيت الواحد والأسرة الواحدة عبر منطق أبوي يغيّبُ الصراعات الاجتماعية ويضعها في الثلاجة العائلية. أو يرى أنه نظام الثورة الواحدة، وحديث الثورة ومجلس قيادة الثورة من المصطلحات الدكتاتورية الآسنة.
وهذه العينة من الآراء تبين مدى الفساد في مثل هذه الحياة السياسية، ورفض أي رؤية موضوعية. فالثورة التي يُفترض أنها ثورة ودعوة للمظلومين اتضح أنها ثورة مضادة وقمع للمظلومين.
ونقول فساد لأن الجهل ونقص المعلومات لا يبرران عدم وجود نقد وبحث غدت موادهما الفكرية والسياسية متاحة لكل إنسان، ولكنها النظارات المستوردة لا تريد أن تبصر الواقع.
تعكس هذه الآراء بدايات الفهم المحافظ لعالم مختلف عنها، حيث لا يوجد داخل هذا العالم المحافظ وبيته العتيد أي نزاعات، ويعود ذلك لأن الإله يصون هذه الوحدة، وأنها سماوية وليست أرضية بشرية فتربط امتيازات طبقة عسكرية سياسية دينية بما هو مفارق للواقع.
وفي هذا الوعي لا توجد بُنى اجتماعية ذات تاريخ، وأنظمة متحولة، وتغدو الجماعة – الطائفة كيانا غيبيا، هي الإسلام بذاته، فلا يمكن الدخول إليها لاكتشاف تناقضات وتحولات.
إنها مفاهيم تعود لما قبل العصر الحديث، لكن كيف سيواجه مثل هذا المنطق تنامي الصراعات المحتومة في كل نظام اجتماعي، فليست هي مقصورة على هذا المذهب أو ذاك، بل هي جزء من طبيعة مثل هذه الأنظمة؟ وكلما زاد التبرير زاد القهر.
أخبار الخليج 11 يوليو 2009