إن مقاربة الشرق الصناعية للغرب ضعيفة، وهذا يترتب عليه ضعف البنية الوطنية المتماسكة، وغياب قيم الحداثة، وتخلف الحياة الاجتماعية الذي يؤدي إلى عدم فهم (الصوت) والعملية الانتخابية، وهيمنة القوى الشمولية من دول وقادة طوائف، وهو ما أدى إلى أن تكون العمليات الانتخابية والحزبية وبالاً على المجتمعات بدلاً من أن تكون أداة التطوير.
فالقوى الاجتماعية لا تعرف معنى الديمقراطية فلا تستطيع أن تطبقها في الحياة السياسية.
وتدرك الدول الشمولية الكبيرة ذلك فتسيطر على أدوات الاقتراع وتخلق مسارح لما يُسمى بالديمقراطية، تجعل كل شيء كما كان سابقاً مع بعض الرتوش.
هناك بلدان شذت عن هذه القواعد نظراً لتطورها الصناعي، كاليابان والهند واستراليا وجنوب أفريقيا، فقد خلقت لها قواعد اقتصادية – اجتماعية جعلت الحاكمين والمحكومين يقبلون بقواعد الديمقراطية، فلا يستخدمون أجهزة الدول في العملية الانتخابية، فالدولُ تغدو مجردَ أدواتٍ سياسية محايدة، يمكن أن يستخدمها حزبُ اليسار أو حزبُ اليمين.
كذلك فإن الدين لا يغدو أداة في الاستخدام السياسي، وهذا الجانب والجانب السابق، يتشكلان معاً في القانون الانتخابي، وهو ما أثمر عنه عصر النهضة وعصر التصنيع، ذاك وضع ثقافة التنوير، وهذا وضع أسس التصنيع.
ومن هنا نرى الديمقراطية الهندية قابلة لوصول جميع الأحزاب للحكم، ورغم الجذور الدينية واليسارية المضادة للأديان، فإن قضية الانتخابات تدور على برامج الاقتصاد والإدارة الاجتماعية.
ليس فقط أن الدولة، كجهاز وطني مستقل، والدين كثقافة مشتركة لليسار واليمين، بل لأن إدخال الصراعات السياسية في هذين المرتكزين للمجتمع لا يبقي المجتمع نفسه.
ولهذا رأينا العمليات الانتخابية التي تجري في الشرق في غير هذه الدول تعود بالدول للوراء، وتؤثر على هذين الهيكلين للمجتمعات، نظراً لغياب التدرج الطويل في التنوير والوطنية.
في بعض الأحيان يستولي اليسار على الحكم في هذه الدول كحالة جنوب أفريقيا ولكنه لا يستطيع تغيير البناء الاقتصادي عامة، إلا بما يطور حياة العاملين الذين رفعوه للسلطة، واليمين قابلٌ بهذه القيادة رغم صراعه معها، لكن الأغلبية العاملة أتاحت لحزب المؤتمر أغلبية مريحة فإن يأتي وقتٌ وتنخرهُ عواملُ الفساد كأن يلتصق بقوى النفوذ المالي أو يتراخى في الدفاع عن مطالب الأغلبية.
وفي الحالات الأخرى التي لم يقعْ غبنٌ فيها على القسم الأكبر من المجتمع كما وقع الغبن على السود في جنوب أفريقيا، من دون أن يكون ذلك كذلك هوية دينية أو عرقية، فنجد القوى الاجتماعية بين مالكين وعاملين هي التي تتنافس أسوة بمثيلاتها في الغرب.
إن الانتقال إلى هذا البناء السياسي يتطلب إرادة سياسية عليا للابتعاد عن العصور الوسطى وثقافتها، فذلك عصر غير ديمقراطي مهما كانت الإنجازات فيه جليلة، ولابد أن تكون الهياكل السياسية والدينية محايدة في الحياة البرلمانية، وتتصارع البرامج الاقتصادية فقط في الانتخابات.
وهذا لا يعني إلغاء العمليات التمهيدية للديمقراطية في العالم الثالث، لكن بشرط ألا توجه المجتمعات للوراء، وتواصل الدول الهيمنة على صناديق الاقتراع، وتلعب التشكيلات السياسية الطائفية والعنصرية والعرقية والمناطقية دوراً رئيسياً تمزيقياً للمجتمع.
ولكن هذه الشروط لا تحدث، وتحدث صفقات سياسية تقطع هذه الأساسيات، وتغير من جوانب منها تتفق فيها الأطراف المتنفذة على الحلول غير الجذرية وتبقي المشكلات الجوهرية في الحياة السياسية والفكرية.
ولهذا نرى ما تسمى بالتجارب الديمقراطية وهي تنزلق في المحاصصات المناطقية فكل فريق يستولي على إقليم، فتغدو الفسيفساء الدينية والطائفية والعنصرية تحت قبة (الديمقراطية)، وكل فريق يستولي على محاصيل ومنافع مادية.
حين ننظر للمجتمع الأفغاني نتساءل هل يمكن قيام (ديمقراطية) في مثل هذا المجتمع القبلي؟
الديمقراطية مسألة ترتفع فوق مستواه وهو الذي يعيش في حروب طاحنة، ومعارضته تشتغل بتجارة المخدرات المورد الرئيسي للبلد.
لكن مثل هذه الديمقراطية محمية بآلة حرب هائلة تستفيد منها شركات السلاح ووزارات الدفاع في الغرب.
كيف يمكن للقبائل في المرحلة الدينية أن تعي مسائل الديمقراطية، والديمقراطية منذ الإغريق تـُقام في مجتمعات مدن وتجار متطورة؟
لقد توهمت الحكومات الأمريكية بإمكانية صناعة ديمقراطية بالقوة في مجتمعات متخلفة وحتى الآن لم تنجح تجربة واحدة.
ومجتمعات الشرق مجتمعات قوة تكون فيها جهة واحدة هي الصانعة للسياسة والديمقراطية غير ذلك.
لا شك أن هذه التجريبية السياسية سوف تنهار، لأنها لا تقود إلى تصحيح شيء أساسي، وغدت ذات كُلف أكبر مما كان فأضيفت نفقات أضخم.
وإذا تم حل هذه التجارب السياسية المسماة ديمقراطية فسوف لن تتغير هذه المجتمعات كثيراً وتعود الدول كما كان الأمر في السابق بتصريف الأعمال.
لا شك أن شعوب المنطقة تحتاج إلى عدة عقود لكي تستوعب التنوير والحداثة، ولكي تتفكك العلاقات بين الدول والثروات، وتصعد قوى الفئات الوسطى والعمال التقنيين المواطنين، وتذبل القوى الطائفية، وتـُعاد اللحمة لنسيج الأوطان.
ولهذا لا تقوم الدول التي فيها مجالس (منتخبة) بإثراء التجربة السياسية في المنطقة ولا تقدم نموذجاً اجتماعياً يُحتذى.
بل أن الدول الأخرى تمضي بسلاسة لا يعوقها شيء، مثبتة أن الدول كلها متشابهة في الإدارة.
وحتى هذه التجارب تتم فيها الطبخات فإذا اصبحت القوى الدينية مكروهة أُدخلت بعض العناصر الليبرالية، والعكس صحيح، مما يجعل مثل هذه التجارب كمسرح العرائس.
أخبار الخليج 9 يوليو 2009