المنشور

«الديمقراطيون» العرب والاختبار الإيراني


أنفق الديمقراطيون والتقدميون العرب عقوداً من الزمن وهم يمارسون خطيئة لسنا نبرىْ أنفسنا منها، يلتمسون الأعذار لعددٍ من الأنظمة العربية التي تقمع شعوبها ويسوغون تقييد نشاط نخبها السياسية والمفكرين والمثقفين فيها تحت حجة أن هذه الأنظمة تقارع الصهيونية والامبريالية.

أكثر من ذلك جرى خلع صفات رنانة طنانة على هذه الأنظمة التي وصفت تارة بالتقدمية وثانية بالوطنية، ولم يتردد البعض عن وصفها بالديمقراطية أيضاً، واجترِحت في سبيل ذلك مآثر” فكرية” في وصف طريق التطور الذي تسير عليه هذه الأنظمة بطريق التطور ألا رأسمالي، فيما كانت الجسور ممدودة بينها وبين مراكز الرأسمال العالمي، أما الاتحاد السوفيتي ودول المعسكر الاشتراكي يومها، فلم تكن بالنسبة إليها أكثر من مصدر للسلاح بأسعار متهاودة، وبقروض يجري شطبها بعد حين.

لن نُذكر بالمخازي التي ارتكبتها هذه الأنظمة بحق شعوبها وبحق نخبها السياسية التقدمية والديمقراطية وبرجال الفكر والثقافة فيها، وبالتدمير الممنهج الذي مارسته بحق مؤسسات المجتمع المدني، ولن نذكر بالمآلات البائسة لهذا النوع من الأنظمة، فذلك ما لا يحتاج إلى إثبات أو برهان. لكن الكثير منا يمعن في تكرار الخطيئة مثنى وثلاثاً وأكثر من ذلك، وهذا ما تبدى في صورته الفادحة في الموقف من الاحتجاجات في إيران التي جوبهت بالقمع الدموي في الشوارع الذي راح ضحيته الكثيرون، بين قتلى ومصابين ومعتقلين. إذ تعالت الأصوات هنا وهناك مسوغة لهذا القمع الدموي، تحت ذريعة موقف إيران «المناهض للاستكبار العالمي، والمعادي للصهيونية، والمناصر للحق العربي»، فإذا بعشرات آلاف المحتجين في الشوارع من النساء والرجال والمطالبين بالحرية والتغيير مجرد عملاء وأذناب للغرب.

على التقدميين والديمقراطيين العرب، وعلى الإسلاميين أيضاً ممن يجأرون بالشكوى من القمع في بلدانهم، ولهم في ذلك كل الحق، أن يبرهنوا على صُدقيتهم في المطالبة بالديمقراطية بالانتصار لكل من يطالب بها، فالديمقراطية في عالم اليوم قيمة إنسانية مطلقة لا تحتمل التجزيء ولا التوزيع بالقطاعي. أذا أردنا الديمقراطية لأنفسنا فعلينا أن نريدها بالمقدار نفسه لسوانا من الشعوب والقوى التي تناضل من أجلها، ومعاداة الامبريالية والصهيونية لا تستقيم مع تقييد الحريات وتكميم الأفواه في أي بلد، وهذا هو الدرس القاسي الذي يفترض أن التجارب علمتنا إياه.

 أن من يقيد حريات شعبه، تحت أي حجة، لا يمكن أن يكون صادقاً في الدفاع عن حقوق هذا الشعب، في عالمٍ باتت فيه الحرية في مقام لقمة الخبز الضرورية، خاصة عندما يدور الحديث عن أنظمة لم تؤمن لشعبها العيش الحر الكريم، حتى تبرر نقص الديمقراطية أو غيابها، فلا هي حسنت أوضاع معيشة الناس ولا هي مكنتهم من حرية الاحتجاج على نهجها المضر بالحيوي من مصالحهم اليومية، هذا إذا ضربنا صفحاً عن الحقوق السياسية.

في اختبار الديمقراطية الذي وفرتهُ الاحتجاجات الإيرانية الأخيرة أثبت الكثير للتقدميين العرب انهم مازالوا في الجوهر غير ديمقراطيين، فهربوا إلى الأمام، أو إلى الخلف والله أعلم، حين دمغوا حركة احتجاج شعبية واسعة، انطلقت شرارتها من داخل هياكل المؤسسة الحاكمة ذاتها، وليست من خارجها، بالعمالة للخارج، لكي لا يصغوا لنداء الحرية الذي بلغ صداه عنان السماء.